الأحد، 16 يناير 2011

كيف نفهم القران الكريم

نحن  في حاجة ماسة وضرورية لفهم القران الكريم فهما يليق بجلال وجمال وكمال الوحي الالهي خطاب الله لعباده والنص فيه سعادة البشر وصلاح المجتمع ومثالية الحياة وواقعية الممارسة وخيرية الوجود في الدنيا والاخرة والحديث عن هذا الامر يحتاج منا لسنين وسنين ولن نصل فيه الي المبتغي ......وسوف احاول في حلقات متواصلة ان اقدم امثلة لمحاولات المتدبرين والمتلقين للقران ..ولا اقصد هنا ان اقدم تفسيرات للقران وانما اتحدث عن التلقي والتدبر الذي هو واجب علي كل مسلم وحق اصيل له فالقران ليس حكرا علي احد انما هو كتاب هداية للعالمين جميعا.......ولن اطيل وسابدا بحول الله علي الفور بعوض جزء من كتاب (التصوير الفني في القران)للمرحوم _سيد قطب_ وقد اثرت ان ابدا بهذ الكتاب وهذا العملاق الفذ ليتعرف الناس علي عظمة ما قدم بغض النظر عن الخطايا التي ارتكبها _سيد قطب _في تاسيس مبدا الحاكمية الحديث وما تبعه من كوارث الفهم والفعل من تطرف وتشدد وتكفير لاصلة للاسلام به ......الا انني  اقدم هذا الفهم للقران من اديب ومفكر كالجبل الاشم وقد كان الفهم والتلقي في فترة معينة من حياة صاحبه لم يكن بعد قد غيره الزمن :-

كيف فُهِمَ القرآن
   لا نستطيع أن نجد في حديث العرب المعاصرين لنزول القرآن صورة معينة لهذا الجمال الفني الذي سموه تارة سحرا . وإن استطعنا أن نلمح فيه صورة لما مسهم منه من تأثير . 
  لقد تلقوه مسحورين . يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون : هؤلاء يُسحرون فيؤمنون , وهؤلاء يُسحرون فيهربون . ثم يتحدث هؤلاء وهؤلاء عما مسهم منه , فإذا هو حديث غامض , لا يعطيك أكثر من صورة المسحور المبهور , الذي لايعلم موضع السحر فيما يسمع من هذا النظم العجيب , وإن كان ليحس منه في أعماقه هذا التأثير الغريب .
  فهذا عمر بن الخطاب يقول في رواية : " فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام " ويقال عنه في رواية إنه قال : " ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! "
  وهذا الوليد بن المغيرة يقول وهو كافر بمحمد وبالقرآن ؛ لا يتهم بحبه أو موالاته : "والله إن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليحطم ما تحته , وإنه يعلو وما يُعلى " . ثم يقول : " ما هو إلا سحر يؤثر . اما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ " .
  وهذا القرآن يصف أثره في نفوس المؤمنين به , ونفوس الذين أوتوا العلم من قبله , بأنه : " ........ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ..... " .. و " ..... إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً{107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً{108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً{109}
  وهؤلاء كفار قريش يقولون في لجاجة الإنكار : " أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " ؛ ثم يعمد واحد منهم هو " النضر بن الحارث " إلى أساطير من قصص الأولين : قصص " اسفنديار ورستم " الفارسية الأصل , فيتلوها على الناس في المسجد حينما يتلو محمد هذا القرآن , ليصرفهم عن محمد وعن القرآن , وإنهم لا ينصرفون . ثم ها هم أولاء كفار قريش لا يجدون في هذا كله جدوى , فيقولون : " لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " !
  هذا كله يقال , وهذا كله يقع , فلا تجد فيه صورة واضحة عن الجمال الفني في القرآن . فالقوم في شغل عن بيان هذه الصورة بما يتملونه منها في نفوسهم , وما يحسونه منها في شعورهم . وهم حيارى مضطربون , أو ملبون مهطعون .
وتلك مرحلة التذوق الفطري للفنون .
* * *
  فإذا تجاوزنا عصر نزول القرآن , رأينا بعض الصحابة يتعاطون تفسير القليل منه اعتمادا على القليل المنقول عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وبعضهم يحاول في حذر وخشية أن يؤول بعض الآيات , وبعضهم يمتنع من هذا خيفة أن يكون فيه مأثم ديني , " كالذي روي عن سعيد ين المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال : أنا لا أقول في القرآن شيئا , وقال ابن سيرين : سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال : اتق الله , وعليك بالسداد , فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن " وعن هشام بن عروة بن الزبير قال : " ما سمعت أبي تأوّل آية من كتاب الله " (1) .
  وهذا كله إن دل على شيء , فإنما يدل , إلى جانب التحرج الديني على مسّ السحر , وروعة البهر , وأمارات المفاجأة بهذا النسق المعجز , إلى حد الدهش والاستسلام .
  فلما كان عصر التابعين نما التفسير نموا مطردا , ولكنهم كانوا " يقتصرون في تفسير الآية على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه من الآية بأخصر لفظ , مثل قولهم : " غير متجانف لإثم " أي غير متعرض لمعصية , ومثل قولهم في قوله تعالى : " وأن تستقسموا بالأزلام " كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا أخذ قدحا فقال : هذا يأمر بالخروج , فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا , ويأخذ قدحا آخر فيقول : هذا يأمر بالمكوث , فليس يصيب في سفره خيرا , والمنيح بينهما . فنهى الله عن ذلك . فإن زادوا شيئا فما روي من سبب نزول الآية . ثم زاد من بعدهم التوسع في أخبار اليهود والنصارى " (2) .
  ثم أخذ التفسير ينمو ويتضخم ابتداءً من أواخر القرن الثاني , ولكن بدلا من أن يبحث عن الجمال الفني في القرآن أخذ يغرق في مباحث فقهية وجدلية , ونحوية وصرفية , وخلقية وفلسفية , وتاريخية وأسطورية . وبذلك ضاعت الفرصة التي كانت مهيأة للمفسرين لرسم صورة واضحة للجمال الفني في القرآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)                         فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين .
(2)                         المصدر السابق  .

   رجل – متأخر نوعا – كان يقع له بين الحين والحين شيء من التوفيق في إدراك بعض مواضع الجمال الفني في القرآن , - هو الزمخشري – وذلك كقوله في تفسير : " ولما سكت عن موسى الغضب " : كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : " قل لقومك كذا , وألق الألواح , وجر برأس أخيك إليك " .
  وهو توفيق – كما ترى – محدود , ينقصه التبلور والوضوح . فإن أجمل ما في هذا التعبير هو " تشخيص " الغضب , كأنه إنسان , يقول ويسكت , ويغري ويصمت , فهذا " التشخيص " هو الذي جعل للتعبير جماله , وهو الذي أدركه الزمخشري , ثم لم يحكم التعبير عنه . أو عبّر عنه بلغة زمانه فلا تثريب عليه . وكقوله في تفسير سورة الفاتحة : " إن العبد إذا افتتح حمدَ مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه بقوله : " الحمد لله " الدال على اختصاصه بالحمد , وأنه حقيق به , وجد من نفسه لا محالة محركا للإقبال عليه . فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : " رب العالمين " الدال على أنه مالك للعالمين , لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته , قوي ذلك المحرك . ثم إذا انتقل إلى قوله : " الرحمن الرحيم " الدال على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها , تضاعفت قوة ذلك المحرك . ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام . وهي قوله : " مالك يوم الدين " الدال على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء , تناهت قوته , وأوجب الإقبال عليه , وخطا به بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات : " إياك نعبد وإياك نستعين " ...
   فهذا نوع من التوفيق في تصوير التناسق النفسي , بين الأحاسيس المتتابعة المنبعثة من تتابع الآيات . وهو لون من ألوان التناسق الأولية في القرآن .
  ولقد حاول بعض المفسرين أن يعثروا على مواضع لهذا التناسق فلم يصلوا إلا للترابط المعنوي في بعض المواضع دون بعضها الآخر ودون الاهتداء إلى قاعدة شاملة . ثم إنهم في أحيان كثيرة تمحّلوافي ذلك تمحّلا شديدا .
* * *
   بقي الباحثون في البلاغة وفي إعجاز القرآن , وكان المنتظر أن يصل هؤلاء – وقد خُلٍّي بينهم وبين البحث في صميم العمل الفني في القرآن – أن يصلوا إلى ما لم يصل إليه المفسرون , ولكنهم شغلوا أنفسهم بمباحث عقيمة حول " اللفظ والمعنى " أيهما تكمن فيه البلاغة ؛ ومنهم من غلبت عليه روح القواعد البلاغية , فأفسد الجمال الكلي المنسق , أو انصرف عنه إلى التقسيم والتبويب ؛ ووصلوا في هذا وذلك في بعض الأحيان , إلى درجة من الإسفاف لاتطاق .
   فانظر إلى تعبير جميل كهذا التعبير : " وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ....." . هذا التعبير الذي يرسم صورة حية للخزي في يوم القيامة , ويصور هؤلاء المجرمين شخوصا قائمة يتملاها الخيال , وتكاد تبصرها العين لشدة وضوحها وتسجيل هيئتها " ناكسو رؤوسهم " وعند من ؟ " عند ربهم " فيخيل للسامع أنها حاضرة لا متخيلة .. هذه الصورة للهول لا تساوي من باحث في البلاغة إلا أن يقول : " وأصل الخطاب أن يكون لمعيّن , وقد يترك إلى غير معيّن , كما تقول : فلان لئيم إن أكرمته أهانك , وإن أحسنت إليه أساء إليك . فلا تريد مخاطبا بعينه , بل تريد أن أكرم وأحسن إليه , فتخرجه في صورة الخطاب ليفيد العموم , أي إن سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد . وهو في القرآن كثير كقوله تعالى : " وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...." أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم , وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا تختص بها رؤية راء , بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب " !
  وبهذا تطوى تلك الصورة الفنية الحية , وتنتهي إلى أن تكون " تفظيعا لحالهم التي تناهت في الظهور " .
   ثم انظر إلى تعبيرات مصورة أخرى : " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ" . " وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً " . " وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ "
   إن هذه الصور الشاخصة الحافلة بالحركة والحياة , حتى لتتابعها العين والأذن والخيال . إن هذه الصور كلها لم تستحق من باحث في البلاغة إلا أن يقول : " التعبير عن المستقبل بلفظ المضيّ تنبيها على تحقق وقوعه , وأن ما هو للوقوع كالواقع " !
   فكل ما لفت نظره إذن هو الكلمات : " فصعق . وحشرناهم . ونادى " وبناؤها للماضي , وكان الأصل أن تصاغ للمستقبل , فعدل عن هذا تنبيها على تحقق الوقوع !   رجل واحد من الباحثين في البلاغة والإعجاز سابق للزمخشري الذي ذكرناه هناك , بلغ غاية التوفيق المقدر لباحث في عصره , هو " عبد القاهر الجرجاني " . فلقد أوشك أن يصل إلى شيء كبير في كتابه " دلائل الإعجاز " لولا أن قصة " المعاني والألفاظ " ظلت تخايل له من أول الكتاب إلى آخره , فصرفته عن كثير مما كان وشيكا أن يصل إليه ؛ ولكنه على الرغم من ذلك كله كان أنفذ حسا من كل من كتبوا في هذا الباب على وجه العموم . حتى في العصر الحديث !
    وهذا مثال من توفيقاته التي كان موشكا أن يصل فيها إلى شيء حاسم . ويجب أن يصبر القارئ على طريقة التعبير , فقد كانت هذه الطريقة هي الزي الشائع في عصره , وهي طريقة " الكلام " والمنطق , بعد دخولها إلى لغة الأدب في ذلك الزمان : " إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنظم , والوقوف على حقيقته . ومن دقيق ذلك وخفيّه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى : " واشتعل الرأس شيبا " لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة , ولم ينسبوا الشرف إلا إليها , ولم يروا للمزية موجبا سواها , هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم , وليس الأمر على ذلك , ولا هذا الشرف العظيم , ولا هذه المزية الجليلة , وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة . ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى شيء , وهو لما هو من سببه , فيرفع به ما يسند إليه , ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده , مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني , ولما بينه وبينه من الاتصال , كقولهم طاب زيد نفسا , وقرّ عمر عينا , وتصبب عرقا , وكرم أصلا , وحسن وجها , وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه , وذلك أنا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى , وإن كان هو للرأس في اللفظ , كما أن طاب للنفس , وقر للعين , وتصبب للعرق , وإن أسند إلى ما أسند إليه .
   " يبين أن الشرف كان لأن سلِك فيه هذا المسلك , وتوخي به هذا المذهب , أن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا , فتقول : اشتعل شيب الرأس , والشيب في الرأس . ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن , وتلك الفخامة ؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها ؟ فإن قلت : فما السبب في أن كان " اشتعل " إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل , ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة ؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس , الذي هو أصل المعنى , الشمول , وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه , وأنه قد استقر به , وعم جملته , حتى لم يبق من السواد شيء , أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به . وهذا ما لا يكون إذا قيل : اشتعل شيب الرأس , أو الشيب في الرأس , بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة , ووزان ذلك أنك تقول : اشتعل البيت نارا , فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول , وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه , وتقول : اشتعلت النار في البيت , فلا يفيد ذلك, بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانبا منه , فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة .
  ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل : " وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ..." . التفجير للعيون في المعنى , وأوقع على الأرض في اللفظ , كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس . وقد حصل بذلك على معنى الشمول ها هنا مثل الذي هناك . وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها , وأن الماء قد كان يفور من كل مكان فيها . ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل : وفجرنا عيون الأرض , أو العيون في الأرض , لم يفد ذلك , ولم يدل عليه , ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض , وتبجس من أماكن فيها " ....
   رحم الله " عبدالقاهر " لقد كان النبع منه على ضربة معول فلم يضربها . إن الجمال في " اشتعل الرأس شيبا " . " وفجرنا الأرض عيونا " هو في ذلك الذي قاله من ناحية النظم . وفي شيء آخر وراءه , هو هذه الحركة التخييلية السريعة , التي يصورها التعبير : حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة , وحركة التفجير التي تفور بها الأرض في ومضة . فهذه الحركة التخييلية تلمس الحسّ , وتثير الخيال , وتشرك النظر والمخيلة في تذوق الجمال . وهي في " واشتعل الرأس شيبا " أوضح وأقوى . لأن حركة الاشتعال هنا حركة ممنوحة للشيب . وليست له في الحقيقة , وهذه الحركة هي عنصر الجمال الصحيح . يدل على ما نقول , إن الجمال في قولك : "اشتعل البيت نارا " , لايقاس ولا يقرب من قول القرآن : " اشتعل الرأس شيبا " , ففي التعبير بالاشتعال عن الشيب جمال , وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس جمال آخر , يكمل أحدهما الآخر . ومن كليها , لا من أحدهما , كان هذا الجمال الباهر ! وهذا هو الذي وقف دونه عبدالقاهر ؛ وإن كان يبدو أنه كان يحسّه في ضميره , ولا يصوره كاملا في تعبيره . وليس لنا على أية حال أن نطالبه بالتعبير في لغة عصرنا الأخير .. يرحمه الله !
* * *
   وأيا ما كانت تلك الجهود التي بذلت في التفسير وفي مباحث البلاغة والإعجاز فإنها وقفت عند حدود عقلية النقد العربي القديمة , تلك العقلية الجزئية التي تتناول كل نص على حدة , فتحلله وتبرز الجمال الفني فيه إلى الحد الذي تستطيع – دون أن تتجاوز هذا إلى إدراك الخصائص العامة في العمل الفني كله .
   هذه الظاهرة قد برزت في البحث عن بلاغة القرآن , فلم يحاول أحد أن يجاوز النص الواحد إلى الخصائص الفنية العامة . اللهم إلا ما قيل في تناسق تراكيب القرآن وألفاظه , أو استيفاء نظمه لشروط الفصاحة والبلاغة المعروفة . وهذه ميزات – كما قال عبد القاهر بحق – لا تذكر في مجال الإعجاز , لأنها ميسرة لكل شاعر وكاتب شب عن الطوق .
   وبوقوف الباحثين في بلاغة القرآن عند خصائص النصوص المفردة , وعدم تجاوزها إلى الخصائص العامة , وصلوا إلى المرحلة الثانية من مراحل النظر في الآثار الفنية , وهي مرحلة الإدراك لمواضع الجمال المتفرقة , وتعليل كل موضع منها تعليلا منفردا . ذلك مع ما قدمنا من أن هذا الإدراك كان بدائيا ناقصا .
   أما المرحلة الثالثة – مرحلة إدراك الخصائص العامة – فلم يصلوا إليها أبدا , لا في الأدب , ولا في القرآن . وبذلك بقي أهم مزايا القرآن الفنية مُغفلا خافيا وأصبح من الضروري لدراسة هذا الكتاب المعجز من منهج للدراسة جديد , ومن بحث عن الأصول العامة للجمال الفني فيه , ومن بيان للسمات المطردة التي تميز هذا الجمال عن سائر ما عرفته اللغة العربية من أدب ؛ وتفسر الإعجاز الفني تفسيرا يستمد من تلك السمات المتفردة في القرآن الكريم .
   وإن لهذا الكتاب العظيم لخصائص مشتركة , وطريقة موحدة , في التعبير عن جميع الأغراض , سواء كان الغرض تبشيرا أم تحذيرا , قصة وقعت أو حادثا سيقع , منطقا للإقناع أو دعوة إلى الإيمان , وصفا للحياة الدنيا أو للحياة الأخرى , تمثيلا لمحسوس أو ملموس , إبرازا لظاهر أو لمضمر , بيانا لخاطر في الضمير أو لمشهد منظور .   هذه الطريقة الموحدة , هذه القاعدة الكبيرة . هي التي كتبنا من أجلها هذا الكتاب .. هي .. " التصوير الفني " !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق