الأحد، 16 يناير 2011

التصوير الفني في القران-سيد قطب


التصوير الفـــــــني
   التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن . فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني , والحالة النفسية ؛ وعن الحادث المحسوس , والمشهد المنظور ؛ وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية . ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة , أو الحركة المتجددة . فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة ؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي , وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية . فأما الحوادث والمشاهد , والقصص والمناظر , فيردها شاخصة حاضرة ؛ فيها الحياة , وفيها الحركة ؛ فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل . فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة ؛ وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول , الذي وقعت فيه أو ستقع ؛ حيث تتوالى المناظر , وتتجدد الحركات ؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى , ومثل يضرب ؛ ويتخيل أنه منظر يعرض , وحادث يقع . فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو ؛ وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات , المنبعثة من الموقف , المتساوقة مع الحوادث ؛ وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة , فتنم عن الأحاسيس المضمرة . إنها الحياة هنا , وليست حكاية الحياة ,
    فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية ؛ وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي , إنما هي ألفاظ جامدة , لا ألوان تصور , ولا شخوص تعبر , أدركنا أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن .
   والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله , حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها ؛ حيثما شاء أن يعبّر عن معنى مجرد , أو حالة نفسية , أو صفة معنوية , أو نموذج إنساني , أوحادثة واقعة , أو قصة ماضية , أو مشهد من مشاهد القيامة , أو حالة من حالات النعيم والعذاب , أو حيثما أراد أن يضرب مثلا في جدل أو محاجّة , بل حيثما أراد هذا الجدل إطلاقا , واعتمد فيه على الواقع المحسوس , والمتخيل المنظور .
   وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا : " إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن " . فليس هو حلية أسلوب , ولا فلتة تقع حيثما اتفق . إنما هو مذهب مقرر , وخطة موحدة , وخصيصة شاملة , وطريقة معينة , يفتن في استخدامها بطرائق شتى , وفي أوضاع مختلفة ؛ ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة : قاعدة التصوير .
   ويجب أن نتوسع في معنى التصوير , حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن . فهو تصوير باللون , وتصوير بالحركة , وتصوير بالتخييل ؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل . وكثيرا ما يشترك الوصف , والحوار , وجرس الكلمات , ونغم العبارات , وموسيقى السياق , في إبراز صورة من الصور , تتملاها العين والأذن , والحس والخيال , والفكر والوجدان .
   وهو تصوير حي منتزع من عالم الأحياء , لا ألوان مجردة وخطوط جامدة . تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات , بالمشاعر والوجدانات , فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية , أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة .
* * *
   والآن نأخذ في ضرب الأمثال :
   ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية :
1- يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله , ولن يدخلوا الجنة إطلاقا , وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل . هذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة . ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية :
" إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ....... "
   ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء , وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ اسم " الجمل " خاصة في هذا المقام ؛ وندع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر , ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة , في أعماق النفس , وقد وردا إليها من طريق العين والحس – تخييلا – وعبرا إليها من منافذ شتى , في هينة وتؤدة , لا من منفذ الذهن وحده , في سرعة الذهن التجريدية .
   2- ويريد أن يبين أن الله سيضيع أعمال الذين كفروا كأن لم تكن قبل شيئا , وستضيع إلى غير عودة فلا يملكون لها ردا , فيقدم هذا المعنى مصورا في قوله :
" وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً "
   ويدعك تتخيل صورة الهباء المنثور , فتعطيك معنى أوضح وآكد , للضياع الحاسم المؤكد .
   3- أو يرسم هذه الصورة المطوّلة بعض الشيء لهذا المعنة نفسه :
" مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ " .
فتزيد الصورة حركة وحياة , بحركة الريح في يوم عاصف , تذرو الرماد وتذهب به بددا , إلى حيث لا يتجمع أبدا .
   4- ويريد أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء , والتي يتبعها المنّ والأذى , لاتثمر شيئا ولا تبقى . فينقل إليهم هذا المعنى المجرد , في صورة حسية متخيلة على النحو التالي :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ..... " .
   ويدعهم يتملون هيئة الحجر الصلب المستوي , غطته طبقة خفيفة من التراب , فظُنت فيه الخصوبة ؛ فإذا وابل من المطر يصيبه ؛ وبدلا من أن يهيئه للخصب والنماء – كما هي شيمة الأرض حين تجودها السماء – إذا به – كما هو المنظور – يتركه صلدا ؛ وتذهب تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تستره , وتخيل فيه الخير والخصوبة .
   ثم يمضي في التصوير لإبراز المعنى المقابل لمعنى الرياء , معنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى :
" وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ .... "
   فهنا الوجه الثاني للصورة , والصفحة المقابلة للصفحة الأولى , فهذه الصدقات التي تنفق ابتغاء مرضاة الله , هي في هذه المرة كالجنة , لا كحفنة من تراب ؛ وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان , فالجنة هنا فوق ربوة ؛ وهذا هو الوابل مشتركا بين الحالتين , ولكنه في الحالة الأولى يمحو ويمحق , وفي الحالة الثانية يربي ويخصب . وفي الحالة الأولى يصيب الصفوان , فيكشف عن وجه كالح كالأذى ؛ وفي الحالة الثانية يصيب الجنة , فيمتزج بالتربة ويخرج " أُكلا " . ولو أن هذا الوابل لم يصبها , فإن فيها من الخصب والاستعداد للإنبات , ما يجعل القليل من المطر يهزها ويحييها ! " فإن لم يصبها وابل فطل " .
   ولا أريد أن أتعرض هنا لذلك التناسق العجيب في جو الصورة , وفي تماثل جزئياتها , وفي توزيع هذه الجزئيات على الرقعة فيها . حيث يكون الصفوان تغشيه طبقة خفيفة من التراب . مثلا للنفس المؤذية تغشيها الصدقة تبذل رياء ( والرياء ستار رقيق يخفي القلب الغليظ ) وحيث توضع الجنة فوق ربوة , في مقابل الحفنة من التراب فوق الصفوان ....
   فهذا التقسيم والتوزيع , وهذا التقابل والتنسيق , متروك كله إلى فصل سيجئ من فصول هذا الكتاب .
   5- ثم يعود إلى ذلك المعنى مرة أخرى فيقول : " مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ .... " .
   فيرسم صورة الحرث تأخذه الريح فيها برد يضرب الزرع والثمار فيهلكها , فلا ينال صاحب الحرث منه ما كان يرجو بعد الجهد فيه , كالذي ينفق ماله وهو كافر , ويرجوالخير فيما أنفق , فيذهب الكفر بما كان يرجوه .
   ولا يفوتنا ما في جرس كلمة " صرّ " من تصوير لمدلولها , وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه . وذلك لون من التناسق , سنعرض له كذلك في فصله الخاص .
   6- ويريد أن يبرز معنى : أن الله وحده يستجيب لمن يدعوه , وينيله ما يرجوه ؛ وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لا تملك لهم شيئا , ولا تنيلهم خيرا , ولو كان الخير قريبا ؛ فيرسم لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة : " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ " .
   وهي صورة تلح على الحس والوجدان , وتجتذب إليها الالتفات , فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة ؛ وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ : شخص حي شاخص , باسط كفيه إلى الماء , والماء منه قريب , يريد أن يُبلغه فاه , ولكنه لا يستطيع , ولو مدّ مدّة فربما استطاع ! .
   7- ويبين أن الآلهة الذين يُعبدون من دون الله , لا يسمعون ولا يجيبون , لأنهم لا يعون ولا يتبينون , وأن دعاء عبادهم لهم عبث لا طائل وراءه ؛ فيختار صورة تبين هذا المعنى , وتجسم هذه الحالة , وتلمس الحس والنفس بأقوى مما تلمسهما العبارات العادية , عن المعاني الذهنية . " وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .
   هكذا ينعق الكفار بما لا يسمع , وينادون ما لا يفهم , فلا يصل إليه من أصواتهم إلا دعاء مبهم , ونداء لا يفهم . فهؤلاء الآلهة لا يميزون بين الأصوات ولا يفهمون مراميها . وهذا مثل , ولكنه صورة شاخصة . صورة جماعة يدعون آلهة تصل إليهاأصواتهم مبهمة , فلا تفهم مما وراءها شيئاوفيها تتجلى غفلة الداعين وعبث دعوتهم , بجانب غفلة المدعوين واستحالة إجابتهم ! .
   8- ويريد أن يجسم ضعف هؤلاء الآلهة , أو الأولياء من دون الله عامة , ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه عبّادهم حين يحتمون بحمايتهم , فيرسم لهذا كله صورة مزدوجة : " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " .
   فهم عناكب ضئيلة واهنة , تأوي من حمى هؤلاء الآلهة أو الأولياء إلى بيت كبيوت العنكبوت أوهن وأضأل , " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " ولكنهم لا يعلمون حتى هذه البديهية المنظورة , فهم يضيفون إلى الضعف والوهن , جهلا وغفلة , حتى ليعجزون عن إدراك البديهي المنظور .
   9- ويريد أن يبين أن الذي يشرك بالله , لا مَنبت له ولا جذور , ولا بقاء له ولا استقرار ,، فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات , عنيفة الحركات : " ........ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " .
   هكذا في ومضة . يخر من السماء من حيث لا يدري أحد , فلا يستقر على الأرض لحظة . إن الطير لتخطفه . أو إن الريح لتهوي به .. وتهوي به في مكان سحيق ! حيث لا يدري أحد كذلك ! وذلك هو المقصود .
   10- ويريد أن يثبت معنى الحرمان والإهمال في الآخرة لهؤلاء الذين أعطاهم الله الكتاب من قبل الإسلام فأهملوه , وعاهدهم على الإيمان فعاهدوه , ثم أخلفوه , ابتغاء نفع مادّي قليل , شأن من لا عهد له , ولا احترام لكلمته , فيرسم لهذا الإهمال المعنوي صورة حسية : "  إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا نصيب .
   فيوضح معنى الإهمال لا بألفاظ الإهمال , ولكن برسم الحركات الدالة عليه : لا كلام , ولا نظر , ولا تزكية . وإنما عذاب أليم .
* * *
   وكما يصور المعاني المجردة يصوّر الحالات النفسية والمعنوية :
1-                                       يريد أن يبرز الحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد , ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد والآلهة المتعددين , ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال فيرسم هذه الصورة المحسّة المتخيلة :
" قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا .... " .
   فتبرز صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوته الشياطين في الأرض ( ولفظ الاستهواء لفظ مصوّر لمدلوله ) ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه , فتكون له راحة ذي القصد الموحد – ولو كان في طريق الضلال – ولكن هناك من الجانب الآخر , إخوان له يدعونه إلى الهدى , وينادونه : " ائتنا ". وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء " حيران " موزع القلب . لا يدري أي الفريقين يجيب , ولا أي الطريقين يسلك , فهو قائم هناك شاخص متلفت !
   2- ويريد أن يكشف عن حال أولئك الذين يهيئ الله لهم المعرفة , فيفرون منها كأن لم تهيأ لهم أبدا ؛ ثم يعيشون بعد ذلك هابطين , تطاردهم أنفسهم وأهواؤهم , بما علموا وبما جهلوا ؛ فلا هم استراحوا بالغفلة , ولا هم استراحوا بالمعرفة , فيرسم لهم هذه الهيئة : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " .
   وفي الصورة تحقير وتقذير – وذلك غرض ديني لا شأن لنا به هنا – ولكنها من الوجهة الفنية صورة شاخصة , فيها الحركة الدائبة . وهي صورة معهودة , فهي في تثبيت المعنى المراد بها أشد وأقوى , وهكذا يلتقي الغرض الديني بالغرض الفني , كالشأن في جميع الصور التي يرسمها القرآن .
   3- ويريد أن يوضح حالة تزعزع العقيدة , حيث لا يستقر الإنسان على يقين ؛ ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ ؛ ولا يجعل عقيدته في معزل عن ملابسات حياته , بعيدة عن ميزان الربح والخسارة , فيرسم لهذا التزعزع صورة تهتز وتترنح , وتوشك على الانهيار : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ  .... " .
   إن الخيال ليكاد يجسم هذا " الحرف " الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس , وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم , وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب ؛ وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع , لأنها تنطبع في الحس , وتتصل منه بالنفس .
   وإني لأذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي وأنا طفل أقرأ القرآن في المدرسة الأولية , حين وصلت إلى هذه الآية .. ترى يبعد تصوري الآن كثيرا عن هذه الصورة الساذجة ؟ لا أظن ! فالاختلاف الذي طرأهو مجرد إدراكي اليوم أن هذا مثل يضرب , لا حقيقة تشهد . وذلك إعجاز التعبير الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك , وتصل في كل حالة إلى صورة حية , مع اختلاف الأفهام .
   4- ومما هو بسبيل من ذلك في غرض آخر غير هذا الغرض , تلك الصورة التي رسمها للمسلمين قبل أن يسلموا , يوم أن كانوا معرضين لجهنم بما هم فيه من الكفر , فقال : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا  .... " .
  هكذا : " كنتم على شفا حفرة من النار " , موشكين على الوقوع , تكاد أقدامكم تزلّ فتهوون . وليس المهم لدينا – في هذا المجال – دقة التشبيه وصدقه , إنما المهم أولا هو هذه الصورة القلقة المتحركة الموشكة في الخيال على الزوال , ولو استطاعت ريشة مصوّر بالألوان أن تبرز هذه الحركة المتخيلة في صورة صامتة لكانت براعة تحسب في عالم التصوير . والمصور يملك الريشة واللوحة والألوان . وهنا ألفاظ فحسب يصوّر بها القرآن .
   ثم ننظر إلى جمال التعبير من زاوية أخرى : إذ يرسم هذه الصورة , ثم يجعل هذه الحفرة من النار , ويجعلهم على شفا منها , فيطوي الحياة الدنيا كلها – وهي الفاصل بينهم وبين النار – ونجعلهم – وهم بعد أحياء , وهم بعد في الدنيا – واقفين هذه الوقفة , على شفا حفرة من النار , حينما كانوا من الكفار !
   5- وشبيهة بهذه الصورة صورة أخرى , لمن يقيم بنيانه على غير التقوى : " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ... " .
   فهنا قد أكمل الحركة الأخيرة , التي كانت متوقعة هناك : " فانهار به في نار جهنم " وبذلك طوى الحياة الدنيا كلها , دون أن يذكر ولو كلمة " ثم " في موضع " الفاء " " فانهار " لأن هذا المدى الطويل , قصير قصير , حتى لاضرورة لهذا " التراخي " القصير !  ( وهذا فن من جمال العرض سيأتي تفصيله في فصل خاص ) .
* * *
   ومن بين الحالات النفسية التي يصورها القرآن , ما يرسم " نموذجا " إنسانيا واضحا للعيان :
   مثال ذلك " من يعبد الله على حرف " وقد تحدثنا عنها هناك , فنزيد عليها هده الأمثال :
   1- يريد أن يشخص حالة العناد السخيف , والمكابرة العمياء , التي لا يجدي معها حجة ولا برهان , فيبرز " نموذجا إنسانيا " في هذه الكلمات :
   " وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ " .  
   أو يقول : " وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " .
   ويريد أن يبين أن الإنسان لا يعرف ربه إلا في ساعة الضيق , حتى إذا جاءه الفرج نسي الله الذي فرّج عنه . ولكنه لا يقولها في مثل هذا النسق الذهني , إنما يرسم صورة حافلة بالحركة المتجددة , والمشاهد المتتابعة , ويرسم في خلالها " نموذجا إنسانيا " كثير التكرار في بني الإنسان :
  " هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... " .
   وهكذا تحيا الصورة وتتحرك , وتموج وتضطرب . وترتفع الأنفاس مع تماوج السفينة وتنخفض ؛ ثم تؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد , أبلغ أداء وأوفاه .
   3- ويريد أن يبرز حالة " نمذج " من الناس ظاهرهم يُغري , وباطنهم يُؤذي . فيرسم لهم صورة كما يأتي : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يصعدون .
   فيستعيض من الوصف الحركة والتصرف , ويبرز المفارقة بين الظاهر والباطن , في نسق من الصور المتحركة في النفس والخيال .
   4- وفريق من الناس ضعيف العقيدة . ضعيف العزيمة , مستور الحال , لا يتبين ضعفه في فترة الرخاء , هؤلاء يصورهم نموذجا واضحا في هذه الكلمات : " وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ  " .
   ومنظر المغشي عليه من الموت معهود ,فما هو إلا أن يذكر التعبير , حتى تبرز صورتهم في الضمير , مصحوبة بالسخرية والتحقير .
   5- وقد يبرز هذا " النموذج " في حادثة مروية , فيتجاوز الحادثة الخاصة ويخلد نموذجا عاما : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ .... " .
   وفي هذا المثال يزيد على الضعف , تلك اللجاجة في أيام السلم , وإظهار الشجاعة والاستبسال ؛ ثم الخور والجبن , عندما تحين ساعة النضال !
   وليست هذه حادثة تقع مرة وتمضي , ولكنه نموذج مكرر في بني الإنسان , لا يتقيد بالزمان والمكان .
* * *
   وإلى هنا قصرنا الأمثلة على المعاني الذهنية , والحالات النفسية , والنماذج الإنسانية , يخرجها التعبير القرآني صورا شاخصة أو متحركة , ويعدل بها عن التعبير المجرد إلى الرسم المصور . فلنأخذ الآن في ضرب الأمثلة على التصوير المشخص , لمشاهد الحوادث الواقعة , والأمثال المضروبة , والقصص المروية ؛ فالطريقة فيها واحدة , والشبه بينها قريب : 1- ها هو ذا يتحدث عن " الهزيمة " فيرسم لها مشهدا كاملا تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة , وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية , وكأنما الحادث معروض من جديد , دون أن يغفل منه قليل أو كثير :
 " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً . إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً " .
   فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة , وأية سمة ظاهرة أو مضمرة من سمات الموقف , لم يبرزها هذا الشريط الدقيق المتحرك , المساوق في حركته لحركة الموقف كله ؟
   هؤلاء هم الأعداء يأتون المؤمنين من كل مكان , وهذه هي الأبصار زائغة والنفوس ضائقة . وهؤلاء هم المؤمنون يزلزلون زلزالا شديدا . وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل . يقولون : " ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " , ويقولون لأهل المدينة : لا بقاء لكم هنا . ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر . وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون : إن بيوتنا مكشوفة , وليست في حقيقتها مكشوفة : " إن يريدون إلا فرارا " .
   وهكذا لا تفلت في الموقف حركة ولا سمة , إلا وهي مسجلة ظاهرة , كأنها شاخصة حاضرة .. تلك حادثة وقعت بالفعل . ولكن صورتها ترسم " الهزيمة " مطلقة من كل ملابسة , وما يزيد عليها أو ينقص منها إلا جزئيات في الواقع ! أما الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان , حيثما التقى جمعان , وتعرض أحدهما للخذلان .
   2- وقريب من هذه الصورة صورة أخرى للهزيمة أيضا , وهي كذلك صورة باقية , لا حادثة مفردة . وذلك حيث يقول : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا  .... " !
   ليخيل إلى أنني أشهد المنظر اللحظة بكل من فيه وكل ما فيه !
* * *
   ثم نأخذ في عرض نماذج من الأمثال القصصية التي تضرب في القرآن :
   1- ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة – جنة الدنيا لا جنة الآخرة – وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا . لقد كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة , ولكن الورثة لا يشاءون . إنهم ليريدون أن يستأثروا بها وحدهم , وأن يحرموا أولئك المساكين حظهم . فلننظر كيف يصنعون : " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلا يَسْتَثْنُونَ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تستأصلونهم بالقتل .
   لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر , دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين . فلندعهم على قرارهم , ولننظر ماذا يقع الآن في بهمة الليل ؛ حيث يختفون هم , ويخلو منهم المسرح . فماذا يرى النظارة ؟ هناك مفاجأة تتم خلسة , وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون , فأصبحت كالصريم (1) . وهم لا يشعرون .
   والآن ها هم أولاء يتصايحون مبكرين ! وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام : " فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ(2). فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ " .
   ليمسك النظارة ألسنتهم فلا ينبهوا أصحاب الجنة إلى ما أصاب جنتهم ؛ وليكتموا ضحكات السخرية التي تكاد تنبعث منهم , وهم يشاهدون أصحاب الجنة المخدوعين , يتنادون متخافتين , خشية أن يدخلها عليهم مسكين ! ليكتموا ضحكات السخرية ! بل ليطلقوها ! فها هي ذي السخرية العظمى : " وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ(3) قَادِرِينَ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)                                        كالمقطوعة الثمار .
(2)                                        قاطعين لثمرها , أو قاطعين فيما تنوون .
(3)                                        منع وحرمان .
أجل ! إنهم لقادرون الآن , على المنع والحرمان , حرمان أنفسهم على الأقل !
   وها هم أولاء يفاجأون , فليضحك كالنظارة كما يشاءون : " فلما رأوها قالوا : إنا لضالون " ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار , فقد ضللنا إليها الطريق ! .. فلتتأكدوا يا جماعة ! .. " بل نحن محرومون " .. وهذا هو الخبر اليقين !
   والآن قد سقط في أيديهم : " قال أوسطهم : ألم أقل لكم : لولا تسبحون ! " اي والله ! هلاّ سبحتم الله واتقيتموه ؟ " قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين " . الآن وبعد فوات الأوان ! . وكما يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة , ويتوجه باللوم إلى الآخرين , ها هم أولاء يصنعون : " فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ! " .
   ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة , عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران , ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى : " قالوا : ياويلنا ! إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها , إنا إلى ربنا راغبون " !
2-                                والآن فإلى صاحب جنة أخرى , بل صاحب جنتين أكبر من الأولى . إن له لقصة مع صاحب له , ليس من ذوي الجنان , ولكن من ذوي الإيمان . وكلاهما " نموذج إنساني " لطائفة من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري , تذهله الثروة , وتبطره النعمة , فينسى القوة الكبرى , التي تسيطر على أقدار الناس والحياة , ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى , فلن تخذله القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه , الذاكر لربه , يرى النعمة دليلا على المنعم , موجبة لحمده وذكره , لا لجحوده وكفره  " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ .... " .
2-   وبهذا ترتسم صورة الجنتين مكتملة , في ازدهار وفخامة . وهذا هو المشهد الأول . فلننظر إلى المشهد الثاني : " .... فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً " .  ويبدو أنه قال قولته هذه وهما في الطريق إلى الجنتين , أو وهما على الباب , إذ جاء بعده : " وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً.  وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً " .
   فهاهو ذا في أوج زهوه وبطره , وتعاليه وازدهائه . فماذا ترى يكون أثر هذا كله في نفس صاحبه الفقير , الذي لا جنة له ولا مال , ولا عصبة له ولا نفر ؟ إن صاحبه لمؤمن , فما تشعره كل هذه المظاهر بالهوان , وما تنسيه عزة ربه الديّان , وما تغفله عن واجبه الصحيح . في رد صاحبه البطر إلى جادة الطريق , ولو استدعى ذلك أن يجبهه بالتقريع , وأن يذكره بمنشئه الصغير من التراب المهين :
   " قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً .  لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً . وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً .  فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً .  أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً " . وهنا ينتهي هذا المشهد بين الصاحبين : أحدهما منتفش كالديك , ازدهاه ما في جنته من ازدهار , والآخر موقن بالله , مستعز بالايمان ؛ يذكر صاحبه ويؤنبه , ويبصره بما كان يجب أن يصنع إذ رأى جنته . ويبدو أن صاحبه لم يستمع إليه – وهذا طبيعي في هذا الموقف – فهو يقسو عليه قسوة الغاضب لدينه , ويدعو على جنته أن يرسل الله عليها الصواعق , فتصبح جرداء ملساء , تزل فيها القدم وتزلق ؛ أو أن يصبح ماؤها غائرا لا يستطيع أن يطلبه , فضلا على أن يستخرجه .. ثم يفترق الصاحبان وهما متغاضبان . قلننظر بعد ماذا يكون ؟
   " وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً " . لقد استجاب الله دعوة الرجل المؤمن المتحدَّي بلا ضرورة . فلنشهد صاحبنا شاخصا يقلب كفيه على ما أنفق فيها , وهي خاوية على عروشها , ولندعه يندم : " يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " ولنسدل الستار على منظر الدمار والاستغفار .
* * *
   والآن فلنعرض شطرا من قصص حقيقية , بعدما عرضنا قصص الأمثال .
1- لنعرض مشهدا من قصة إبراهيم , وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل , وكأنما نحن نشهدهما يبنيان ويدعوان الآن , لا قبل اليوم بأجيال وأزمان .
   " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " .
   لقد انتهى الدعاء , وانتهى المشهد , وأسدل الستار . هنا حركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء , هي التي أحيت المشهد وردته حاضرا . فالخبر : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " كان كإنما هو الإشارة برفع الستار ليظهر المشهد : البيت , وإبراهيم وإسماعيل , يدعوان هذا الدعاء الطويل .
   وكم في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز , يزيد وضوحا لو فرضت استمرار الحكاية , ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل :وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا ... إلخ . إنها في هذه الصورة حكاية , وفي الصورة القرآنية حياة . وهذا هو الفارق الكبير . إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة . وسر الحركة كله في حذف لفظة واحدة .. وذلك هو الإعجاز .  
   2- ثم لنعرض مشهدا من قصة الطوفان : " وهي تجري بهم في موج كالجبال " . وفي هذه اللحظة الرهيبة , تتنبه في نوح عاطفة الأبوة , فإن هناك إبنا له لم يؤمن , وإنه ليعلم أنه مُغرق مع المغرقين . ولكن ها هو ذا الموج يطغى , فيتغلب " الإنسان " في نفس نوح على "  النبي " , ويروح في لهفة وضراعة ينادي إبنه جاهرا : " ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا , ولا تكن مع الكافرين " . ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه الضراعة ؛ والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها : " قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " . ثم ها هي ذي الأبوة الملهوفة ترسل النداء الأخير : " قال : لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " . وفي لحظة تتغير صفحة الموقف , فها هي ذي الموجة العاتية تبتلع كل شيئ " وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " ...  
   إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار ؛ " وهي تجري بهم في موج كالجبال " ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء ؛ وابنه الفتى المغرور , يأبى إجابة الدعاء ؛ والموجة القوية العاتية , تحسم الموقف في لحظة سريعة خاطفة . كما يقاس بمداه في الطبيعة – حيث يطغى الموج على الذرى والوديان . وإنهما لمتكافئان , في الطبيعة الصامتة , وفي نفس الإنسان .
* * *
   ثم لننتقل إلى مشاهد القيامة , وإلى صور النعيم والعذاب فقد كان لها من التصوير الفني أوفى نصيب :
   1- " فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ.  مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ" .
   فهذا مشهد من مشاهد الحشر , مختصر سريع ؛ ولكنه شاخص متحرك . مكتمل السمات والحركات . هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة , كأنها جراد منتشر ( ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المنظر العجيب ) وهذه الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي , دون أن تعرف لمَ يدعوها , فهو يدعوها " إلى شيء نكر " لا تدريه . " خشعا أبصارهم " وهذا يكمل الصورة ؛ ويمنحها السمة الأخيرة . وفي أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع " يقول الكافرون هذا يوم عسر " . فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار ؟ وإن السامعين ليتخيلون اليوم النكر . فإذا هو حشد من الصور . صورهم هم – وإنهم لمن المبعوثين – يتجلى فيها الهول الحي . الذي يؤثر في نفس كل حي !
   2- وهذا مشهد آخر من مشاهد الإسراع والخشوع , أشد في النفس هولا وأكمد في التصوير لونا :  " وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ.  مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء " . أربع صور متتابعة متواكبة , أو أربعة مشاهد لرواية واحدة , يتلو بعضها بعضا في الاستعراض , فتتم بها صورة شاخصة في الخيال , وهي صورة فريدة للفزع والخجل والرهبة والاستسلام , يجللها ظل كئيب ساهم , يكمد الأنفاس . وهي صورة ترسم كذلك في وسط حي : هؤلاء آدميون , بينهم وبين المستمعين صلة الجنس المشترك , والحس المتشابه ؛ فهي ترتسم في نفوسهم حية , ويصل الشعور بها من هؤلاء إلى هؤلاء بالمشاركة الوجدانية وبالتخيل المحسوس , فإذا قرأها القارئ تمشت رعدة الهول في حناياه , كأنما يلقاه !
   3- ثم تأتي صورة الهول العظمى , التي لا تغني الألفاظ عنها , فلننقلها لتعبر عن نفسها : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.  يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ  " . مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت , تنظر ولا ترى , وتتحرك ولا تعي , وبكل حامل تسقط حملها , للهول المروع ينتابها ؛ وبالناس سكارى وما هم بسكارى يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة , وفي خطواتهم المترنحة . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج , تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاه , والهول الشاخص يذهله , فلا يكاد يبلغ أقصاه . وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة , ولكن بوقعه في النفوس الآدمية : المرضعات الذاهلات عما أرضعن , والحوامل الملقيات حملهن , والسكارى وماهم بسكارى " ولكن عذاب الله شديد " .
   4- وإذا كانت الصور الثلاثة الماضية ترسم الهول ظاهرا للعيان , فهناك صور لا يدركها إلا الوجدان : " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " . " وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً " .  إنه لا يوجد أخصر من هذا ولا أدق في تصوير اشتغال القلب والفكر بالهم الحاضر القاهر , حتى لا موضع لسواه , ولا تلفت ولا انتباه .
    5- وهذا موقف آخر من مواقف البعث مفصل بعض الشيء , ومؤلف من عدة مشاهد , بين كل منها والآخر فجوة يملؤها الخيال : " مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ " .
   فهذه هي الصيحة الأولى أخذتهم وهم يتجادلون ويتخاصمون , فلم يستطيعوا حتى التوصية , لأنها عجلت بهم إلى القبور .. ثم : " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ " .  وهذه هي الصيحة الثانية , وها هم أولاء يسرعون من القبور إلى ربهم , وهم في ذعر ودهش , يتساءلون : " من بعثنا من مرقدنا ؟ " ثم يفركون عيونهم فيتحققون : " قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ  " .. ثم " إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ . فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " . وهذه هي الصيحة الأخيرة : " فإذا هم جميع لدينا محضرون " . ولقد حضروا فعلا , وارتسم المشهد ؛ وها هم أولاء يتلقون الخطاب , على مرأى ومسمع ممن يقرأون الآن هذا الكتاب ! : " فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
   6- وإذا تم الحشر , وابتدأ العرض , فها نحن أولاء أمام مشهد لجماعة كانت في الدنيا متوادة متحابة , وهي اليوم متناكرة متدابرة , كان بعضهم يملي لبعض في الضلال ؛ وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين , ويهزأ من دعواهم في نعيم الآخرة .
   هاهم أولاء يقتحمون النار فوجا بعد فوج , هذا هو الفوج الأول . ينقل إليه نبأ اقتحام الفوج الثاني : " هذا فوج مقتحم معكم " فماذا يكون الجواب ؟ يكون : " لامرحبا بهم , إنهم صالوا النار " ! فهل يسكت المشتومون ؟ كلا ! فها هم أولاء يردون : " قالوا : بل أنتم لا مرحبا بكم . أنتم قدمتموه لنا , فبئس القرار ! " وإذا دعوة جامعة : " قالوا : ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " ! ثم ماذا ؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين , الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا وظنون بهم شرا , فلا يرونهم معهم مقتحمين : " وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ .  أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ .  إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ"
وإننا لنشهد اليوم هذا التخاصم كما لو كان حاضرا في العيان ! وإن كل نفس آدمية لتحس في حناياها وقع هذا المشهد وتتقيه , وتحاذر – لو ينفع الحذر – أن تقع فيه !
* * *
تلك مشاهد للبعث والحشر , وما يقع فيها من حوار بين الشركاء , وتناكر بين الأصفياء , فلنعرض صورا من النعيم والعذاب , بعد الحوار والعتاب : " وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ .  قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ    
   " وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ " .
   وتكملة المشهد : " وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " .
   ونحسب أن المشهد بارز واضح . منسق الخطوات , متقابل الجزئيات , لا يحتاج منا إلى توضيح أو بيان . فلنتابع خطوات الفريقين إلى ما خلف الجدران !
   2- " إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الْأَثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ . إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ " .
   " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ . كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ . يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ . لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ " .
   3- ونختم مشاهد القيامة هنا , بهذا المشهد المتعدد المناظر , المتنوع المشاهد , المتفرد في طريقة العرض والحوار :
   " وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ . وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ . وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ . وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ " .
   فها نحن أولاء أمام مشاهد يتلو بعضها بعضا . ها نحن أولاء أمام المؤمنين في الجنة , والكافرين في النار . ينادي الأولون الآخرين : " قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا , فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ " – وفي هذا السؤال من التهكم المر ما فيه – فيجيء الجواب من هناك " نعم " ! حيث لا مجال لنكران أو محال . وعندئذ يؤذن بينهما مؤذن : " أن لعنة الله على الظالمين " . ثم نحن أولاء أمام الأعراف – الفاصلة بين الجنة والنار – وعليها رجال يعرفون هؤلاء وهؤلاء ؛ فهم يتوجهون إلى أصحاب الجنة بالترحيب والسلام , ويتوجهون إلى أصحاب النار بالتبكيت والإيلام : " أهؤلاء الذين أقسمتم لاينالهم الله برحمة ؟ " أنظروا أين هم الآن . إنهم في الجنة يتلقون التكريم !
   وأخيرا ها هم أولاء أصحاب النار يستغيثون , طالبين من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله , فلديهم من كل شيئ فيض غزير , فليفيضوا منه على الملهوفين , ولكن الجواب هم المعذرة والتذكير : " إن الله حرمهما على الكافرين " .
   تلك من صور القيامة , ومن صور الحوار فيها والخصام , ومن صور النعيم فيها والعذاب . فهل كان القارئ في أثناء استعراضها يحس أن هذا كله آت في المستقبل البعيد ؟ أم يحس أنه واقع في الحاضر المشهود ؟
   أما أنا فقد نسيت نفسي ؛ ونسيت أني أستعرض هذه المشاهد في ثوبها الفني ؛ وحسبتني أشهدهاغ في الواقع لا في الخيال . وذلك أثر الإعجاز في العرض والتشخيص , وهو إعجاز يزيد قيمته أنه – كما قلت مرارا – يعتمد على الألفاظ وحدها في هذا التصوير .
* * *
   وبعد , فقد كان من حق هذا الفصل أن ينتهي إلى هذا الحد . ولكن هناك غرضا من أغراض القرآن يبدو بطبيعته بعيدا عن الأسلوب التصويري لأنه منطق وجدل ودعوة إلى الدين , كان يتبادر إلى الفهم أن يكون الأسلوب الذهني هو الذي يتبع فيه ؛ فاستخدام الأسلوب التصويري – حتى في هذا الغرض – له دلالته الخاصة على أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن – وهذه هي القضية التي نعرضها في هذا الفصل – فلا عجب أن نلم بهذه الظاهرة الأخيرة , ونضرب من الجدل التصويري بعض الأمثال . وإن كان لهذا الجدل فصل خاص سيجيء في أواخر الكتاب .
   1- هذه هي الصورة الأولى : مشهد من مشاهد الطبيعة الصامتة الخالدة , يلفت النظر إليه دليلا على قدرة  الله : " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ " .
   هذه لوحة طبيعية منسقة يوجه إليها البصر , لينقل البصر ما يراه إلى النفس , ليقع في النفس ما يقع من الأثر . لتؤمن بقدرة الله " الذي خلق سبع سماوات طباقا " وهي لوحة معروضة في كل حين . ولكنك تقرأ هذه الآيات , فتلتفت إليها كأنما تعرض أول مرة في هذا الوجود . وتلك كطريقة القرآن في كل ما يوجه إليه النظر من مشاهد الطبيعة . ومشاهد الحياة في جميع المناسبات .
   2-    2- وهذه صورة من مشاهد الطبيعة الصامتة كذلك, ولكنها في هذه المرة معروضة في الأرض لا في السماء : " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " .  
   فهذا المشهد قديم مكرور , تمر عليه العيون في غفلة والنفوس , ولكنه يعرض هنا كأنه جديد ؛ وإنه لكفيل حين تتملاه العين أن يوقع في النفس تأثرا وجدانيا خاصا . فهذه القطع المتجاورات من الأرض مختلفة في النبات . لا بل إن النوع الواحد من النبات ليختلف في الأشكال . فمزدوج ومنفرد . وجميعه يسقى بماء واحد , ولكن تختلف طعومه في الأكل .. وأيا ما كانت هذه الملاحظات , فمردها الأول إلى المشاهدة : مشاهدة هذه اللوحة الطبيعية التي يوجه إليها الأنظار , لتراها بالبداهة الملهمة والحس البصير , بعد أن تتملاها الأبصار .
   3- وهذا منظر من مناظر الطبيعة المتحركة في الجو , يعرضه خطوة خطوة , وفي كل خطوة مشهد : " اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ . فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
 هكذا لوحة بعد لوحة  إرسال الرياح . إثارة السحاب . بسطه في السماء . جعله متراكما . خروج المطر من خلاله . نزول المطر . استبشار من يصيبهم بعد أن كانوا يائسين . إحياء الأرض بعد موتها . لينتقل من هذه المشاهد المتتابعة بعد استعراضها للعين والخيال , وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل , إلى : " إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير " , فيجيء هذا التقرير . في أنسب الأوقات للتقرير .
   4- ولئن كان المشهد الثالث في الجواء , فالمشهد الرابع في الأرضين , وهو من ذلك المشهد بسبيل : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ " .  
   فهذا مشهد من مشاهد الأرض كذلك متعدد الخطوات , وهو يعرض في بطء وتفصيل , وتترك كل خطوة للعين مدة كافية للتأمل , وللنفس مدة كافية للتأثر . هذا هو الماء ينزل من السماء فيسلك ينابيع للري . ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه . ثم يهيج هذا الزرع وينضج فتراه مصفرا . ثم ييبس فيصير حطاما . و " ثم " في كل مرة تعطي هذه " المهلة " للعين والنفس , لتملي المشهد المعروض قبل طيه , وعرض المشهد التالي ( وذلك فن من تناسق العرض سيأتي تفصيله في الفصل الخاص به ) .
   5- وفي الجو مشاهد أخرى حية . فهناك الطير التي تطير باسطة أجنحتها , صافة أقدامها , ثم تقبض أجنحتها كذلك عند الهبوط : " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ " .  إنه مشهد واحد ذو منظرين . منظر الطير باسطات أجنحتها صافات أرجلها , ومنظرها كذلك قابضات . وهي صورة حية يلفت إليها أنظارهم , ليروها بالحس الشاعر المتأثر , دليلا على قدرته ورحمته .
   6- وفي الأرض مشهد آخر متكرر , يمر به الناس غافلين كذلك , وفي تأمله وتتبع حركته الوئيدة التي تكاد تتم في الخيال – وإن كانت معروضة في العيان -  ما يلمس النفس , ويؤثر في الوجدان , ويتيح الفرصة لألوان شتى من التأملات . ذلك منظر الظل الذي تلقيه الأجرام فيبدو ساكنا , وهو يتحرك ببطء لطيف : " أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً . ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً " .  وفي هذا المشهد جمال طبيعي يغري الخيال بالجولان , ويملي في الخواطر في الهيمان . وكم في المشاهد المألوفة المكرورة ما يبدو جديدا , كأنما تتملاه العين أول مرة , حين تتجه إليه بالحس الشاعر المتفتح , والعين المتيقظة للألوان .
   7- وفي الأرض مشاهد أخرى لعل من أشدها أثرا في الحس والنفس تلك الرسوم الدوارس , والربوع الخوالي , وما تخيله للحس من صور الحياة الغابرة , ومن أشباح الأحياء الداثرة . قهي مشاهد للعين في الظاهر , وللنفس في الضمير . والقرآن يوجه إليها النظر , ثم يرد الخيال إلى الحياة الغابرة فيها , الداثرة منها : "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " .
* * *
   التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن , وهو القاعدة الأولى فيه للبيان , وهو الطريقة التي يتناول بها جميع الأغراض , وهو الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء .
   وهذا الفصل هو مصداق هذا الكلام .

هناك تعليق واحد:

  1. ايوة اربط على كده .ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه

    ردحذف