الخميس، 20 يناير 2011

....ومازال ابن خلدون يعيش معنا .....ويصف حالنا


في كيفية طروق الخلل للدولة

إعلم أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما فالأول الشوكة و العصبية و هو المعبر عنه بالجند و الثاني المال الذي هو قوام أولك الجند و إقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. و الخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أولا طروق الخلل في الشوكة و العصبية ثم نرجع إلى طروقه في المال و الجباية. و اعلم أن تمهيد الدولة و تأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبة و أنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها و هي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة و قبيلة فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف و جدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته و ذري قرباه القاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك و العز و الغلب فيحيط بهم هادمان و هما الترف و القهر ثم يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل و الإهانة و سلب النعمة و الترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون و يقلون و تفسد عصبيبة صاحب الدولة منهم و هي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب و تستتبعها فتنحل عروتها و تضعف شكيمتها و تستبدل عنها بالبطانة من موالي النعمة و صنائع الإحسان و تتخذ منهم عصبة إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم و القرابة منها و قد كنا قدمنا أن شأن العصبية و قوتها إنما هي بالقرابة و الرحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدولة عن العشير و الأنصار الطبيعية و يحس بذلك أهل العصاب الأخرى فيتجاسرون عليه و على بطانته تجاسرا طبيعيا فيهلكهم صاحب الدولة و يتبعهم بالقتل واحد بعد واحد و يقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك، الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا فيستولي عليهم الهلاك بالترف و القتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبة و يفشوا بعزتها و ثورتها و يصيروا أوجز على الحماية و يقلون لذلك فتقل الحماية التي تنزل بالأطراف و الثغور فتتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف و يبادر الخوارج على الدولة من الأعياص و غيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم و أمنهم من وصول الحامية إليهم و لا يزال ذلك يتدرج و نطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة و ربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه و يقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعانا لأهل عصبتها و لغلبهم المعهود و اعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أولا إلى الأندلس و الهند و الصين و كان أمر بني أمية نافذا في جميع العرب بعصبة بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل و لم يرد أمره. ثم تلاشت عصبة بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا. و جاء بنو العباس فنضوا من أعنة بنب هاشم و قتلوا الطالبين و شردوهم فانحلت عصبية عبد مناف و تلاشت و تجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بأفريقية و أهل الأندلس و غيرهم و انقسمت الدولة ثم خرج بنو إدريس بالمغرب و قام البربر بأمرهم إذعانا للعصبية التي لهم و أمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة. فإذا خرج الدعاة آخرا فيتغلبون على الأطراف و القاصية و تحصل لهم هناك دعوة و ملك تنقسم به الدولة و ربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصا إلى أن ينتهي إلى المركز و تضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك و تضمحل و تضعف الدولة المنقسمة كلها و ربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها و هي صبغة الانقياد و التسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها و لا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب و يكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جندي و مرتزق و يعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد يتصور عصيانا أو خروجا إلا و الجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك و لو جهد جهده و ربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج و المنازعة لاستحكام صبغة التسليم و الانقياد لهم فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة و لا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج و الانتقاض الذي يحدث من العصاب و العشائر ثم لا يزال أمر الدولة كذلك و هي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور و لكل أجل كتاب و لكل دولة أمد و الله يقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار. و أما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا و القصد في النفقات و التعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية و التحذلق و الكيس في جميع الأموال حسبان العمال و لا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال ثم يحصل الاستيلاء و يعظم و يستفحل الملك فيدعو إلى الترف و يكثر الإنفاق بسببه فتعظهم نفقات السلطان و أهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر و يدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند و أرزاق أهل الدولة ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات و ينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها و عوائدها و يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه و لما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه و أرزاق جنده ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس و تكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة و القهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة و يكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل و الهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم و تداوى بسكينة العطايا و كثرة الإنفاق فيهم و لا تجد عن ذلك وليجة و تكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية و كونها بأيديهم و بما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية و تفشو السعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة و الحقد فتعمهم النكبات و المصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم و تتلاشى أحوالهم و يفقد ما كان للدولة من الأبهة و الجمال بهم و إذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم و يكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة و ضعفت عن الاستطالة و القهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال و يراه أرفع من السيف لقلة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات و أرزاق الجند و لا يغنى فيما يريد و يعظم الهرم بالدولة و يتجاسر عليها أهل النواحي و الدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلال و تتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها و إلا بقيت و هي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته و طفئ و الله مالك الأمور و مدبر الأكوان لا إله إلا هو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق