اعرض جزء من الكتاب القيم الفريد في بابه:- الطغيان السياسي وسبل تغييره من منظور قراني للدكتور:- عبد الرحمن عمر اسبينداري
حديث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ
القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية، ولييتحدث
س المقصود من ذلك تحديد وتعيين الأسماء والأمكنة والأزمنة بقدر بيان الظاهرة وآثارها السَّلبيَّة في حياة الأمم عبر العصور، لذا لا يهتم القرآن كثيراً وهو يعرض قصص الطُّغاة بذكر أسمائهم وتواريخهم، والأماكن التي ظهروا فيها وما إلى ذلك من التفاصيل. ويدل على ذلك أن القرآن حينما يتناول الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية لم يذكر تفاصيل عدة عن نماذج للطغيان السِّياسيّ، وإنما اكتفى بذكر نموذج شبه مفصل يمثل الطُّغيان السِّياسيّ وهو نموذج فرعون، وستظهر كيفية اتخاذ القرآن إياه أنموذجاً للطاغية فيما سنذكره فيما بعد سواء في صفاته أو أثناء الدَّوافع التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان أو الوسائل المستخدمة من قبله، في حين ذكر القرآن مقتطفات من قصص طغاة آخرين.
ففي نموذج –الذي حاج إبراهيم في ربه- لم يتطرق القرآن الكريم إلا لذكر فقرة واحدة من قصته، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْفَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[[1]. فأبهم حتى اسمه ناهيك عن التفصيلات الأخرى، تلك التفصيلات التي حاولت كتب التَّفسير تتبعها واستخرجها من مصادر مختلفة ولا سيما المصادر الإسرائيلية.وفي نموذج الملك في قصة أصحاب الأخدود لم يتطرق القرآن الكريم إلا إلى مشهد واحد من قصته، وأبهم ما عدا ذلك من التفاصيل، بل إن القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً مَنْ هو الملك، ولم ترد أية إشارة صريحة تدل على وجود حاكم طاغ يقف خلف المشهد، قال تعالى: ]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[.
فلا يظهر من الآيات أنه كان هناك ملك، وأنه كان طاغياً، أو ما إلى ذلك. وهذا ما دفع بعض المفسِّرين إلى القول بأن الذي خد الأخاديد لم يكن ملكاً واحداً، وإنما تكرر ذلك من عدد من الملوك كما ينقل ابن كثير وغيره ذلك. واكتفت الآيات كما هو واضح بذكر وسائل الطُّغاة المستخدمةضد كل من يخرج من حظيرة الطَّاغية ويخلع ربقة العبودية وذلك بعدم الطَّاعة له ومخالفته. وبغض النظر عما ورد في كتب التَّفسير من تفاصيل القصة والملك والأقوال المختلفة في ذلك فقد ثبت أن الملك كان جباراً طاغياً مدعياً الرُّبُوبيَّة كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. نورد نصه بالكامل وذلك لعدم ورود هذه التفاصيل في القرآن الكريم، قال رسول الله e:
(كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست النَّاس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي النَّاس، فرماها فقتلها، ومضى النَّاس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ. وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي النَّاس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع النَّاس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع النَّاس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال النَّاس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام. فَأُتِيَ الملكُ، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حَذَركَ قد آمن النَّاس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق). وفي نموذج أصحاب الكهف (الآيات 9-26 من سورة الكهف) بغض النظر عن الخلاف الدائر فيهم، وهل كان هناك ملك طاغ أم لا فانه تم التركيز على مشاهد مثيرة في غاية الأهمية تبين صفات أولئك الذين واجهوا الطُّغيان بقوة إيمانهم، وسُبُل التصدي له في حين لا نجد أي حديث عن الملك الطَّاغية أو الملأ الطاغي في القصة. فحتى إذا رجحنا رأي عامة المفسِّرين في المسألة، فإنه لا توجد ملامح ومعالم واضحة للحاكم الطاغي أو النُّخبة الطَّاغية في القصة. فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا فصل القرآن الكريم في قصة الطَّاغية فرعون –كما ستأتي- في حين لم يذكر القرآن أية تفاصيل تتعلق ببقية الطُّغاة إلا من خلال إيراد مقتطفات رمزية من قصصهم؟.
فالذي يظهر للباحث هو أن القرآن الكريم اكتفى في حديثه عن الطُّغيان السِّياسيّ للحاكم بذكر نموذج واحد مفصل مع التطرق إلى نماذج أخرى من هنا وهناك صراحة أو ضمناً، وذلك لأن الطُّغيان السِّياسيّ هو هو في الدَّوافع والوسائل والتفكير والتطبيق، وإن اختلف الزمان والمكان والذوات، ويتحد ويتشابه مضموناُ وروحاً، مصداق ذلك قوله تعالى: ]أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون.
يقول الأفغاني رحمه الله: "فكلما قضى فرعون تقمص بآخر، وكلما انقرضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة، وجاءت ولو من وراء البحار، والتصقت بالنسب الفرعوني ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله علىثم بمقارنة ما ذكره القرآن من أساليب الطُّغاة التي ستأتي في الفصول القادمة وبما هو موجود في الواقع المعاصر وما كان في الأمس سنجد أنه لا يوجد خلاف بين كل ذلك إلا في جزئيات. ويلاحظ على الرغم من أن القرآن ذكر قصص الطُّغاة مختصرة أن الجامع بينهم كان ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة والتقديس، ومن ثم استخدام وسائل البطش والإرهاب تجاه المخالفين لهم الذين رفضوا الاعتراف بقدسيتهم. وعليه نذكر نموذجاً واحداً للحاكم الطاغي وهو فرعون موسى الذي وردت قصته مفصلة في القرآن الكريم للتعرف من خلال ذلك على الطُّغيان السِّياسيّ في أبعاده وصوره كما يصوره القرآن. يضاف إلى ما سبق أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن فرعون بوصفه يمثل هذه الظاهرة لم يحدد القرآن من هو فرعون موسى، ومتى عاش، وما اسمه، ومن هو الفرعون الذي نشأ موسى u في بيته، ثم هل هو نفسه الذي أرسل إليه موسى u وأنه قد طغى أم أنه كان هناك فرعونان؟ فرعون نشأ موسى في بيته ثم أرسل إلى الفرعون الذي بعده. كل هذه التفاصيل لم يذكرها القرآن الكريم مع أن نموذج الطَّاغية فرعون هو النَّموذج الوحيد المفصل فيه إلى حد كبير، لأن الهدف من ذكر القصة إنما هو بيان الظاهرة وآثارها الخطيرة والمدمرة على الأمم.
وقد اختلف المؤرخون قديماً وحديثاً في تحديد اسم فرعون موسى، وكذا فيما إذا كان هناك فرعون واحد أو فرعونان، وقد انتقل ذلك الخلاف إلى المفسِّرين أيضاً عند تفسيرهم للآيات التي تناولت قصة فرعون. فهناك من ذهب إلى التصريح بأنه كان هناك فرعون واحد أمثال الإمام ابن كثير من المفسِّرين القدامى، ومحمَّد رشيد رضا من المتأخرين. في حين ذهب آخرون إلى القول بأنه كان هناك فرعونان، فرعون تربى موسى u في بيته، وفرعون أرسل إليه موسى، من هؤلاء الإمام الطبري من القدامى، والمودودي، وابن عاشور من المعاصرين، والجدير بالذكر أن التوراة تذهب إلى القول بفرعونين. واشتد الخلاف أيضاً في تحديد اسم فرعون أو الفرعونين ويرى الباحث أنه لا طائل للجري وراء ذلك الخلاف لأن القرآن أراد من القصة غير ذلك، وطرح الموضوع بوصفه ظاهرة غير مرتبطة باسم فلان أو علان، أو كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله معلقاً على محاولة تسمية الذي حاج إبراهيم في ربه: "إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع أمر وإمكان حدوثه في أي زمان ومكان لا يشخص الأمر، لأن التشخيص يفسد المراد"، ومع ذلك فقد رجح بعضهم أن اسم الأول رعمسيس الثَّاني. والثَّاني منفتاح.
وحتى إذا ما قلنا إن فرعون الخروج غير الأول، فإن القرآن لم يفرق بينهما، وإذا قلنا إنه فرعون واحد فليس هناك أية تفاصيل عنه، والمعروف أن فرعون لقب وليس اسماً.
أما لماذا لم يرد اسم فرعون أو الفرعونين في القرآن وتم الاكتفاء باللقب دون الأسماء؟ فقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك: "حتى تبقى الفرعنة ظاهرة يمكن دراستها ومقاومتها، لأنها لو ربطت باسم شخص وإن عظم فساده فقد ينساها النَّاس، وربما يذهب في ظن النَّاس أنها مجرد حوادث فردية في الماضي لا تتكرر، والحال أن طبيعة الظواهر التي يطرحها ويعالجها القرآن الاطراد والتكرار". وهذا المنهج الذي ورد في القرآن أي عدم التطرق إلى ذكر الأسماء والأمكنة والأزمنة والتركيز على الطَّاغية ومؤسسته باعتبار الطُّغيان هو هو مهما اختلفت الأمور السالفة الذكر هو الذي اتبعه الرسول e. ففي قصة أصحاب الأخدود أو حديث الساحر والراهب والغلام الذي مر بنا نرى أن الرسول e لا يتطرق فيه إلى ذكر الأسماء والأماكن والأزمان فلا يذكر من ذلك شيئاً، بل ذكر الملك بصيغة النكرة مع عدم تحديد التاريخ ولا المكان، قال رسول الله e: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر). أما متى وأين؟ ومن هو ذلك الملك؟.
أقطاب التَّحالُف الطُّغياني في قصة فرعون
درج المتحدثون في مسألة الطُّغيان السِّياسيّ ولا سيما أثناء حديثهم عن نموذج فرعون في القرآن الكريم على الاعتقاد بأن القرآن قد كشف اللثام عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة في الدولة الطَّاغية. وهذه الأطراف وحسب تعبير الشيخ القرضاوي هي:- "الحاكم المتجبر في بلاد الله ويمثله فرعون، والسِّياسيّ الوصولي الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطَّاغية وتثبيت حكمه وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان، والرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطَّاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه ويمثله قارون". وقد ذكر ذلك أيضاً محمَّد شحرور، وكذا أبو سعدة، وأحمد إدريس وغيرهم.
إلا أنه بتدقيق النظر في القرآن الكريم لا نجد أن هذه الصورة واضحة تمام الوضوح كما يتحدث عنها هؤلاء اللهم إلا في آيتين قرآنيتين تم فيها الاقتران بين هذه الأسماء الثلاثة، قال تعالى: ]وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ[، و: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[.
ولكن لم يبين القرآن أو بالأحرى لم ترد إشارات فيه إلى كيفية ذلك التَّحالُف وبالأخص بين قارون وفرعون بخلاف الأمر مع هامان وفرعون فالصورة أكثر وضوحاً مما هو عليه الأمر بين فرعون وقارون. وقد تم اقتران هامان بفرعون في ست آيات.
من الممكن جداً أن نستنبط من الآيات السالفة إشارات إلى مكانة قارون حيث مكانة هامان واضحة جداً من أنه كان يمثل الرأس المدبر لملأ فرعون أو حسب تعبير ابن كثير الوزير السوء، أو رئيس الوزراء حسب التعبير المعاصر، فربما تشير هذه الآيات إلى مكانة قارون بين ملأ بني إسرائيل المقربين من فرعون، والذين كانوا يقومون بمهمة تخويف بني إسرائيل ومنعهم من اتباع موسى u، قال تعالى: ]فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ[. ولا سيما إنه كان غنياً جداً فربما كان يمثل رأس ملأ بني إسرائيل المقرب من فرعون أو عامله عليهم وقد صرح بعض المفسِّرين بأن قارون كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، فقد نقل القرطبي: "وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنياً عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم". وعلق الثعالبي بعد أن ذكر كلام المسيب السابق وغيره في ذلك بأن: "ما ذكره ابن المسيب هو الذي يصح في النظر لمتأمل الآية". وقد ذكر ذلك قبلهما ابن أبي زمنين (ت 399هـ).وهو عين ما ذكره كل من الإمام البغوي والشوكاني. وبذلك فإن قارون لا يمثل قطباً بذاته في التَّحالُف الطاغوتي في الدولة الفرعونية، وإنما يمثل جزءاً من البطانة السيئة لا أكثر، والتي يقف على رأسها هامان. لذا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هلاك الطُّغاة في قصة فرعون فإنه يتحدث عن هلاك الأقطاب الرئيسة (فرعون، وهامان –باعتباره ممثلاً للبطانة ورئيساً لها- والجُنُود). بل ومنذ أن كان موسى u رضيعاً يبين القرآن الكريم أن الله سبحانه أراد أن يُري فرعون وهامان والجُنُود ما كانوا منه يحذرون، قال تعالى: ]فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ[، وقال تعالى: ]وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[. وستأتي بقية الآيات التي اقترن فيها ذكر الجُنُود مع فرعون. ثم إذا كان اقتران اسم قارون بفرعون مرتين وهامان به ست مرات، تجعل منهما قطبي الطُّغيان الثلاثة، فماذا نقول إذن في اقتران الجُنُود بفرعون في أكثر من سبعة مواضع ما عدا مواضع أخرى جاءت من غيراقتران، وكذلك الأمر بالنسبة للبطانة السيئة أو الملأ الذي اقترن بفرعون في أكثر من اثني عشر موضعاً. ولذا يرى الباحث أن التَّحالُف الثلاثي الذي كشف عنه القرآن إنما هو بين الحاكم المتجبر الطاغي ويمثله فرعون، وبين بطانة السوء المكونة من: (هامان السِّياسيّ رئيس البطانة أو الملأ، وقارون الرأسمالي الباغي وعامل فرعون على بني إسرائيل، والكهنة أو رجال الدِّين المضفين للشرعية على سلطات الطَّاغية، والإعلام الملهي والمشوه ويمثله السحرة وكذا القائمون على إشاعة وإيصال الأوامر الفرعونية إلى المدائن وعلى جناح السرعة)، وبين الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة، وما هامان وقارون إلا أفرادٌ في بطانة السوء أو من يمثل رأس البطانة ولا سيما هامان المدبر والمنفذ لأوامر فرعون من بناء الصرح، وقارون العامل والنائب على بني إسرائيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق