الخميس، 27 يناير 2011

تحية لبلادي

تحية لك يا بلادي ...تحية لك يا مصر الغالية كم ظلموك وقالوا عنك انك لاتثوري وان شعبك لا يغضب .......وكم كنت مؤمن بك يا اعظم البلاد واقدم الحضارات واكبر المدنيات ....كنت دائما لدي يقين اننا شعبا من ارقي الشعوب لايقبل الذل ولا الهوان ابدا .....لكنه ايضا يملك عبقرية لاحدود لها فان هذا الشعب العظيم يبقي صابرا متحملا مستكننا مسالما لابل احيانا مستسلما شديد الضعف والخوف........وفجاه يثور كالبركان الهادر الكاسح لايقف في وجهه مستبد او طاغيه
وهكذا فعل شعب بلادي يوم 25 يناير 2011
ان بلادي تشتاق الي الحرية ....تشتاق للعدل .......تشتاق الي الامل

الثلاثاء، 25 يناير 2011

دستور القران في مقاومة الطغيان والاستبداد



مفردة الطُّغيان في القرآن الكريم
أولاً: الطُّغيان
وردت كلمة طغى ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم وبصيغ وتصريفات مختلفة: (طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون).  ونظراً إلى أن السياق القرآني له تأثيره البين والواضح في إضفاء معانٍ جديدة على الكلمات فإن الطُّغيان جاء بمعانٍ عدة وفقاً للسياق الذي ورد فيه، ولكن قبل الدخول في ذكر معاني الطُّغيان في القرآن الكريم لابد من الإشارة إلى أن بعض الآيات تحتمل أكثر من معنى واحد من المعاني التي أفادتها مفردة الطُّغيان مع القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد وهو المعني اللغوي -مجاوزة الحد- لكلمة الطُّغيان، وهذه المعاني هي 1. الضلال والكفر
ورد الطُّغيان في عدد من الآيات القرآنية بمعنى الضلال أو الكفر أو كليهما معاً، وهذه الآيات هي؛ قال تعالى:
]اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[.
]وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[.
]مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[.
]وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[.
]وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[.
]وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[.
]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[.
]قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ[.
يعني: ما أضللته. قال الزمخشري: "ما جعلته طاغياً، وما أوقعته في الطُّغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى".
ونظراً لأن السياق يدل بوضوح على أن معنى الطُّغيان في هذه الآيات هو الضلال أو الكفر أو كلاهما معاً فإن جل المفسِّرين إن لم نقل كلهم قد ذهبوا إلى أن المعنى في هذه الآيات هو الضلال والكفر. نشير إلى بعض من تلك الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر.
قال مجاهد : "في طغيانهم يعني في ضلالتهم يترددون. يقول: زادهم الله ضلالة إلى ضلالتهم، وعمى إلى عماهم". وقال الواحدي ونذرهم في طغيانهم يعمهون: أخذُلُهُم وأدعُهُم في ضلالتهم يتمادون".
ومن القرائن التي تدل على أن المعنى في الآيات السابقة هو الضلال قوله تعالى: (يعمهون) والعمه هو التردد والحيرة، وهو حال معروفة للضال حقيقة ومجازاً. قال الزجاج: "ومعنى يعمهون في اللغة: يتحيرون. يقال: رجل عمه وعامه: أي متحير".
وبعد أن ذكر الإمام ابن جرير الطبري روايات كثيرة تشير إلى أن المقصود بالطُّغيان هنا الضلال والكفر قال: "القول في تأويل قوله تعالى يعمهون. قال أبو جعفر: والعمه نفسه الضلال يقال منه عمه فلان يعمه عمهانا وعموها إذا ضل…فمعنى قوله جل ثناؤه ويمدهم في طغيانهم يعمهون: في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها فأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً وبنحو ما قلنا في العمه جاء تأويل المتأولين". وكما ينقل النحاس عن أهل اللغة أنه يقال: "يعمهون: يترددون في الضلالة…وحكى أهل اللغة عَمِهَ يَعْمَهُ عُمُوهاً وعَمَهاً وعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ إذا حار".

2. بمعنى الطُّغيان السِّياسيّ؛ أي بمعنى مجاوزة الحد في الاستكبار والعتو والتجبر والظُّلم والفساد في الأرض وفي استخدام القوة وعدم مراعاة أسس العدل والحق ولا سيما من قبل السادة والحكام. والآيات التي تضمنت هذه المعاني، هي:
]اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى[.
]اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى[.
]اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى[.
]فَأَمَّا مَنْ طَغَى[.
]قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى[.
قال الإمام الرَّازي: "أنه تعالى لم يبين أنه -فرعون- تعدى في أي شيء، فلهذا قال بعض المفسِّرين: معناه أنه تكبر على الله وكفر به. وقال آخرون إنه طغى على بني إسرائيل. والأولى عندي: الجمع بين الأمرين، فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم، وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق، فكذا كمال الطُّغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق ومع الخلق".
وقوله: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ). يعني: "تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرد والبغي في بلادهم، اغتراراً بالقوة وعظم السلطان". وقوله: (لِلْطَّاغِينَ مَآبًا). قال القاسمي: "أي للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم". وقوله: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ). والسياق يبين أن المقصود بـ(الطاغين) هم الزعماء الطُّغاة بدليل قول الملائكة لهؤلاء (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ). يقول البيضاوي (ت 791هـ): "قوله تعالى: (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ)، حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال، والاقتحام ركوب الشدة، والدخول فيها لا، مرحباً بهم دعاء من المتبوعين على أتباعهم".
وقوله: ]أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[. يعني: "مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم".
وقوله: ]وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ[.
ويدل على أن المقصود بالطُّغيان هنا الاستكبار والعتو والتجبر السياق في أكثر الآيات المذكورة أعلاه حيث الخطاب هنا جار بين السادة والأتباع. إضافة إلى قرائن أخرى وردت في سياق الآية الأخيرة منها لفظة (مجرمون) وكذا لفظة (يستكبرون) فـ(مجرمون) راجع إلى كل من السادة والأتباع، قال الرَّازي في تفسير قوله تعالى: ]فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ[: "يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية".
ويدل على أن المقصود هنا السادة الطُّغاة أنهم قد استخدموا القوة في إشراك الرَّعيَّة معهم، وهذا ما يدل عليه تفسير كلمة (اليمين) الموافق للسياق كما يقول الإمام الرَّازي رحمه الله في بيانه لمعاني اليمين في قوله تعالى: ]قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ[: "لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه".
وقوله تعالى: ]كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا[.
يقول ابن الجوزي: "بطغواها أي كذبت رسولها بطغيانها، والمعنى أن الطُّغيان حملهم على التكذيب. قال الفراء: "أراد بطغواها طغيانها وهما مصدران إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك".
وقوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى). الاستغناء هنا عام وليس مختصاً بالمال فقط بل يشمل كلاً من المال والقوة والجُنُود..الخ بحيث يصل الإنسان به إلى درجة يشعر أنه قد استغنى عن كل من حوله.
وقوله: ]وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا[.
يقول البيضاوي: "فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً، إلا عتواً متجاوز الحد". ويشير البغوي إلى نفس المعنى بقوله: "أي تمرداً وعتواً عظيماً". وهذا الوصف مطابق لما كان عليه ملأ قريش العاتي.

3. العلو والارتفاع والكثرة

ورد الطُّغيان في بعض الآيات القرآنية بمعنى مجاوزة الحد بالمفهوم اللغوي، أي بمعنى: العلو والارتفاع والكثرة، قال تعالى: ]إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ[.
يقول الراغب الأصفهاني: "فاستعير الطُّغيان فيه لمجاوزة الماء الحد".
سمي ذلك طغياناً لمجاوزة الماء القدر المعلوم وهو كما سبق من باب الاستعارة، فهو من قبيل: "استعارة معقول لمحسوس…فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي، والمستعار منه التَّكبُّر، والجامع الاستعلاء المفرط وهما -التَّكبُّر والاستعلاء- عقليان".
وقوله تعالى: ]فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغية[.
سميت الصيحة التي أهلكت ثمود بالطَّاغية وذلك لتجاوزها الحد المعلوم أو المعهود في مثلها. قال قتادة: "أي الصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة". قال الزمخشري: "بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، واختلف فيها فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم".
والراجح أنها كانت صيحة مجاوزة لحد كل صيحة، وليس المقصود هنا التكذيب بالطُّغيان كما ذهب إليه بعض المفسِّرين، والتكذيب بسبب الطُّغيان إنما هو في آية الشمس، وهو اختيار ابن جرير الطبري فبعد أن ذكر الخلاف في ذلك قال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك: فأهلكوا بالصيحة الطَّاغية. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله إنما أخبر عن ثمود بالمعنى الذي أهلكها به كما أخبر عن عاد بالذي أهلكها به فقال: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ[ ولو كان الخبر عن ثمود بالسبب الذي أهلكها من أجله كان الخبر أيضا عن عاد كذلك إذ كان ذلك في سياق واحد وفي إتباعه ذلك بخبره عن عاد بأن هلاكها كان بالريح الدليل الواضح على أن إخباره عن ثمود إنما هو ما بينت". وهو ما ذكره الزمخشري أيضاً. ويدل لصحة القول بأن المقصود هنا الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة ما ذكره القرآن الكريم في مواضع أخرى عن هلاك ثمود بالصيحة، وهذه المواضع هي؛ قال تعالى: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ). وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ). وقوله: (فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ[. وقوله: ]فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ). وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[. وقوله: ]فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ[.
ولا تعارض بين هذه الآيات حيث كانت الصيحة مجاوزة للحد من الشدة، وكما يقول الإمام الآلوسي: "فان الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطَّاغية لأن الطُّغيان مجاوزة الحد".
وقوله: ]مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) وما طغى يعني: وما جاوز ما أمر برؤيته إلى غيره، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً.

 

4. بمعنى الإسراف في الظُّلم والعصيان

ومن المعاني التي ورد بها الطُّغيان الإسراف في الظُّلم أو مجاوزة الحد في الظُّلم والعصيان. والآيات القرآنية التي تضمنت هذا المعنى، هي، قال تعالى:
]كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[.
قال الزمخشري: "طغيانهم في النعمة أن يتعدوا حدود الله فيها، بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزوروا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا".
وقوله: ]أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ[.
أي لا تظلموا أو لا تتجاوزوا العدل والحق. قال القاسمي: "أي بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال".
وقوله: ]فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[.
قال ابن كثير: "يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات، والدوام على الإستقامة، وذلك من أكبر العون على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطُّغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك".
وقوله: ]وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى[.
أي: "أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهمً".وقوله تعالى: ]قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ). أي متجاوزين الحد في العصيان وذلك بمنع حق الفقراء فيه.

5. بمعنى العقوق أي مجاوزة الحد في التعامل مع الوالدِّين

ورد الطُّغيان بمعنى العقوق في قوله تعالى: ]وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا[.
فالمراد من أنه يطغى عليهما: أنه يتجاوز الحد المعروف في تعامل الابن مع والديه مما يجعله عاقاً. قال الزمخشري: "فخفنا أن يغشى الوالدِّين المؤمنين طغياناً عليهما، وكفراً لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاءً". يقول ابن عطية: "أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطُّغاة الكفار".
والقرائن التي تدل على أن معنى الطُّغيان هنا هو العقوق الذي هو مجاوزة الحد أو القدر المعلوم في تعامل الولد مع الوالدِّين المفهوم المخالف لكلمة (رحماً) يعني أكثر عطفاً ورحمة عليهما. قال الطوسي: "أقرب رحماً: أي أبر بوالديه من المقتول -في قول قتادة- يقال رحمه ورحمة ورحماً".


الطغيان ......وكيف حاربه القران


 اعرض جزء من الكتاب القيم الفريد في بابه:- الطغيان السياسي وسبل تغييره من منظور قراني للدكتور:- عبد الرحمن عمر اسبينداري   
حديث القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ
القرآن عن الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية، ولييتحدث 
س المقصود من ذلك تحديد وتعيين الأسماء والأمكنة والأزمنة بقدر بيان الظاهرة وآثارها السَّلبيَّة في حياة الأمم عبر العصور، لذا لا يهتم القرآن كثيراً وهو يعرض قصص الطُّغاة بذكر أسمائهم وتواريخهم، والأماكن التي ظهروا فيها وما إلى ذلك من التفاصيل. ويدل على ذلك أن القرآن حينما يتناول الطُّغيان السِّياسيّ بوصفه ظاهرة اجتماعية لم يذكر تفاصيل عدة عن نماذج للطغيان السِّياسيّ، وإنما اكتفى بذكر نموذج شبه مفصل يمثل الطُّغيان السِّياسيّ وهو نموذج فرعون، وستظهر كيفية اتخاذ القرآن إياه أنموذجاً للطاغية فيما سنذكره فيما بعد سواء في صفاته أو أثناء الدَّوافع التي تدفع الحاكم إلى الطُّغيان أو الوسائل المستخدمة من قبله، في حين ذكر القرآن مقتطفات من قصص طغاة آخرين.
ففي نموذج الذي حاج إبراهيم في ربه- لم يتطرق القرآن الكريم إلا لذكر فقرة واحدة من قصته، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْفَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[[1]. فأبهم حتى اسمه ناهيك عن التفصيلات الأخرى، تلك التفصيلات التي حاولت كتب التَّفسير تتبعها واستخرجها من مصادر مختلفة ولا سيما المصادر الإسرائيلية.

وفي نموذج الملك في قصة أصحاب الأخدود لم يتطرق القرآن الكريم إلا إلى مشهد واحد من قصته، وأبهم ما عدا ذلك من التفاصيل، بل إن القرآن الكريم لم يذكر مطلقاً مَنْ هو الملك، ولم ترد أية إشارة صريحة تدل على وجود حاكم طاغ يقف خلف المشهد، قال تعالى: ]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[.
فلا يظهر من الآيات أنه كان هناك ملك، وأنه كان طاغياً، أو ما إلى ذلك. وهذا ما دفع بعض المفسِّرين إلى القول بأن الذي خد الأخاديد لم يكن ملكاً واحداً، وإنما تكرر ذلك من عدد من الملوك كما ينقل ابن كثير وغيره ذلك. واكتفت الآيات كما هو واضح بذكر وسائل الطُّغاة المستخدمةضد كل من يخرج من حظيرة الطَّاغية ويخلع ربقة العبودية وذلك بعدم الطَّاعة له ومخالفته.
وبغض النظر عما ورد في كتب التَّفسير من تفاصيل القصة والملك والأقوال المختلفة في ذلك فقد ثبت أن الملك كان جباراً طاغياً مدعياً الرُّبُوبيَّة كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه. نورد نصه بالكامل وذلك لعدم ورود هذه التفاصيل في القرآن الكريم، قال رسول الله e:
(كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست النَّاس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي النَّاس، فرماها فقتلها، ومضى النَّاس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ. وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي النَّاس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع النَّاس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع النَّاس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال النَّاس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام. فَأُتِيَ الملكُ، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حَذَركَ قد آمن النَّاس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيه، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق). وفي نموذج أصحاب الكهف (الآيات 9-26 من سورة الكهف) بغض النظر عن الخلاف الدائر فيهم، وهل كان هناك ملك طاغ أم لا فانه تم التركيز على مشاهد مثيرة في غاية الأهمية تبين صفات أولئك الذين واجهوا الطُّغيان بقوة إيمانهم، وسُبُل التصدي له في حين لا نجد أي حديث عن الملك الطَّاغية أو الملأ الطاغي في القصة. فحتى إذا رجحنا رأي عامة المفسِّرين في المسألة، فإنه لا توجد ملامح ومعالم واضحة للحاكم الطاغي أو النُّخبة الطَّاغية في القصة.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا فصل القرآن الكريم في قصة الطَّاغية فرعون كما ستأتي- في حين لم يذكر القرآن أية تفاصيل تتعلق ببقية الطُّغاة إلا من خلال إيراد مقتطفات رمزية من قصصهم؟.
فالذي يظهر للباحث هو أن القرآن الكريم اكتفى في حديثه عن الطُّغيان السِّياسيّ للحاكم بذكر نموذج واحد مفصل مع التطرق إلى نماذج أخرى من هنا وهناك صراحة أو ضمناً، وذلك لأن الطُّغيان السِّياسيّ هو هو في الدَّوافع والوسائل والتفكير والتطبيق، وإن اختلف الزمان والمكان والذوات، ويتحد ويتشابه مضموناُ وروحاً، مصداق ذلك قوله تعالى: ]أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون.
يقول الأفغاني رحمه الله: "فكلما قضى فرعون تقمص بآخر، وكلما انقرضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة، وجاءت ولو من وراء البحار، والتصقت بالنسب الفرعوني ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله علىثم بمقارنة ما ذكره القرآن من أساليب الطُّغاة التي ستأتي في الفصول القادمة وبما هو موجود في الواقع المعاصر وما كان في الأمس سنجد أنه لا يوجد خلاف بين كل ذلك إلا في جزئيات. ويلاحظ على الرغم من أن القرآن ذكر قصص الطُّغاة مختصرة أن الجامع بينهم كان ادعاء الرُّبُوبيَّة والألُوهيَّة والتقديس، ومن ثم استخدام وسائل البطش والإرهاب تجاه المخالفين لهم الذين رفضوا الاعتراف بقدسيتهم. وعليه نذكر نموذجاً واحداً للحاكم الطاغي وهو فرعون موسى الذي وردت قصته مفصلة في القرآن الكريم للتعرف من خلال ذلك على الطُّغيان السِّياسيّ في أبعاده وصوره كما يصوره القرآن.
يضاف إلى ما سبق أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن فرعون بوصفه يمثل هذه الظاهرة لم يحدد القرآن من هو فرعون موسى، ومتى عاش، وما اسمه، ومن هو الفرعون الذي نشأ موسى u في بيته، ثم هل هو نفسه الذي أرسل إليه موسى u وأنه قد طغى أم أنه كان هناك فرعونان؟ فرعون نشأ موسى في بيته ثم أرسل إلى الفرعون الذي بعده. كل هذه التفاصيل لم يذكرها القرآن الكريم مع أن نموذج الطَّاغية فرعون هو النَّموذج الوحيد المفصل فيه إلى حد كبير، لأن الهدف من ذكر القصة إنما هو بيان الظاهرة وآثارها الخطيرة والمدمرة على الأمم.
وقد اختلف المؤرخون قديماً وحديثاً في تحديد اسم فرعون موسى، وكذا فيما إذا كان هناك فرعون واحد أو فرعونان، وقد انتقل ذلك الخلاف إلى المفسِّرين أيضاً عند تفسيرهم للآيات التي تناولت قصة فرعون. فهناك من ذهب إلى التصريح بأنه كان هناك فرعون واحد أمثال الإمام ابن كثير من المفسِّرين القدامى، ومحمَّد رشيد رضا من المتأخرين. في حين ذهب آخرون إلى القول بأنه كان هناك فرعونان، فرعون تربى موسى u في بيته، وفرعون أرسل إليه موسى، من هؤلاء الإمام الطبري من القدامى، والمودودي، وابن عاشور من المعاصرين، والجدير بالذكر أن التوراة تذهب إلى القول بفرعونين.
واشتد الخلاف أيضاً في تحديد اسم فرعون أو الفرعونين ويرى الباحث أنه لا طائل للجري وراء ذلك الخلاف لأن القرآن أراد من القصة غير ذلك، وطرح الموضوع بوصفه ظاهرة غير مرتبطة باسم فلان أو علان، أو كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله معلقاً على محاولة تسمية الذي حاج إبراهيم في ربه: "إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع أمر وإمكان حدوثه في أي زمان ومكان لا يشخص الأمر، لأن التشخيص يفسد المراد"، ومع ذلك فقد رجح بعضهم أن اسم الأول رعمسيس الثَّاني. والثَّاني منفتاح.
وحتى إذا ما قلنا إن فرعون الخروج غير الأول، فإن القرآن لم يفرق بينهما، وإذا قلنا إنه فرعون واحد فليس هناك أية تفاصيل عنه، والمعروف أن فرعون لقب وليس اسماً.
أما لماذا لم يرد اسم فرعون أو الفرعونين في القرآن وتم الاكتفاء باللقب دون الأسماء؟ فقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك: "حتى تبقى الفرعنة ظاهرة يمكن دراستها ومقاومتها، لأنها لو ربطت باسم شخص وإن عظم فساده فقد ينساها النَّاس، وربما يذهب في ظن النَّاس أنها مجرد حوادث فردية في الماضي لا تتكرر، والحال أن طبيعة الظواهر التي يطرحها ويعالجها القرآن الاطراد والتكرار".
وهذا المنهج الذي ورد في القرآن أي عدم التطرق إلى ذكر الأسماء والأمكنة والأزمنة والتركيز على الطَّاغية ومؤسسته باعتبار الطُّغيان هو هو مهما اختلفت الأمور السالفة الذكر هو الذي اتبعه الرسول e. ففي قصة أصحاب الأخدود أو حديث الساحر والراهب والغلام الذي مر بنا نرى أن الرسول e لا يتطرق فيه إلى ذكر الأسماء والأماكن والأزمان فلا يذكر من ذلك شيئاً، بل ذكر الملك بصيغة النكرة مع عدم تحديد التاريخ ولا المكان، قال رسول الله e: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر). أما متى وأين؟ ومن هو ذلك الملك؟.

أقطاب التَّحالُف الطُّغياني في قصة فرعون

درج المتحدثون في مسألة الطُّغيان السِّياسيّ ولا سيما أثناء حديثهم عن نموذج فرعون في القرآن الكريم على الاعتقاد بأن القرآن قد كشف اللثام عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة في الدولة الطَّاغية. وهذه الأطراف وحسب تعبير الشيخ القرضاوي هي:-"الحاكم المتجبر في بلاد الله ويمثله فرعون، والسِّياسيّ الوصولي الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطَّاغية وتثبيت حكمه وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان، والرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطَّاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه ويمثله قارون". وقد ذكر ذلك أيضاً محمَّد شحرور، وكذا أبو سعدة، وأحمد إدريس وغيرهم.
إلا أنه بتدقيق النظر في القرآن الكريم لا نجد أن هذه الصورة واضحة تمام الوضوح كما يتحدث عنها هؤلاء اللهم إلا في آيتين قرآنيتين تم فيها الاقتران بين هذه الأسماء الثلاثة، قال تعالى: ]وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ[، و: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[.
ولكن لم يبين القرآن أو بالأحرى لم ترد إشارات فيه إلى كيفية ذلك التَّحالُف وبالأخص بين قارون وفرعون بخلاف الأمر مع هامان وفرعون فالصورة أكثر وضوحاً مما هو عليه الأمر بين فرعون وقارون. وقد تم اقتران هامان بفرعون في ست آيات.
من الممكن جداً أن نستنبط من الآيات السالفة إشارات إلى مكانة قارون حيث مكانة هامان واضحة جداً من أنه كان يمثل الرأس المدبر لملأ فرعون أو حسب تعبير ابن كثير الوزير السوء، أو رئيس الوزراء حسب التعبير المعاصر، فربما تشير هذه الآيات إلى مكانة قارون بين ملأ بني إسرائيل المقربين من فرعون، والذين كانوا يقومون بمهمة تخويف بني إسرائيل ومنعهم من اتباع موسى u، قال تعالى: ]فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ[. ولا سيما إنه كان غنياً جداً فربما كان يمثل رأس ملأ بني إسرائيل المقرب من فرعون أو عامله عليهم وقد صرح بعض المفسِّرين بأن قارون كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، فقد نقل القرطبي: "وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنياً عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم". وعلق الثعالبي بعد أن ذكر كلام المسيب السابق وغيره في ذلك بأن: "ما ذكره ابن المسيب هو الذي يصح في النظر لمتأمل الآية". وقد ذكر ذلك قبلهما ابن أبي زمنين (ت 399هـ).وهو عين ما ذكره كل من الإمام البغوي والشوكاني. وبذلك فإن قارون لا يمثل قطباً بذاته في التَّحالُف الطاغوتي في الدولة الفرعونية، وإنما يمثل جزءاً من البطانة السيئة لا أكثر، والتي يقف على رأسها هامان. لذا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هلاك الطُّغاة في قصة فرعون فإنه يتحدث عن هلاك الأقطاب الرئيسة (فرعون، وهامان باعتباره ممثلاً للبطانة ورئيساً لها- والجُنُود). بل ومنذ أن كان موسى u رضيعاً يبين القرآن الكريم أن الله سبحانه أراد أن يُري فرعون وهامان والجُنُود ما كانوا منه يحذرون، قال تعالى: ]فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ[، وقال تعالى: ]وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[. وستأتي بقية الآيات التي اقترن فيها ذكر الجُنُود مع فرعون. ثم إذا كان اقتران اسم قارون بفرعون مرتين وهامان به ست مرات، تجعل منهما قطبي الطُّغيان الثلاثة، فماذا نقول إذن في اقتران الجُنُود بفرعون في أكثر من سبعة مواضع ما عدا مواضع أخرى جاءت من غيراقتران، وكذلك الأمر بالنسبة للبطانة السيئة أو الملأ الذي اقترن بفرعون في أكثر من اثني عشر موضعاً. ولذا يرى الباحث أن التَّحالُف الثلاثي الذي كشف عنه القرآن إنما هو بين الحاكم المتجبر الطاغي ويمثله فرعون، وبين بطانة السوء المكونة من: (هامان السِّياسيّ رئيس البطانة أو الملأ، وقارون الرأسمالي الباغي وعامل فرعون على بني إسرائيل، والكهنة أو رجال الدِّين المضفين للشرعية على سلطات الطَّاغية، والإعلام الملهي والمشوه ويمثله السحرة وكذا القائمون على إشاعة وإيصال الأوامر الفرعونية إلى المدائن وعلى جناح السرعة)، وبين الجُنُود أو المؤسَّسة العسكريَّة، وما هامان وقارون إلا أفرادٌ في بطانة السوء أو من يمثل رأس البطانة ولا سيما هامان المدبر والمنفذ لأوامر فرعون من بناء الصرح، وقارون العامل والنائب على بني إسرائيل.






الاثنين، 24 يناير 2011

البدعة كما تحدث عنها الامام الشاطبي

دائما يبدا الخطيب خطبة الجمعة بحديث الرسول الكريم -صلي الله عليه وسلم -(من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أصدق الحديث كتاب الله أحسن الهدي هدي محمد شر الأمور محدثاتها كل محدثة بدعة كل بدعة ضلالة كل ضلالة في النار) ولا يهتم احدهم ولو لمرة ولاحدة ان يبين ما هي البدعة التي هي ضلالة والتي هي في النار وعلي ذلك ااحاول ان ابين معني البدعة بدون تدخل مني فقط ساترك الكلام للرجل الذي جدد دين هذة الامة بكتابة الفذ الذي يحوي بين دفتيه كنوزا تحتاج امن يستخرجها رغم الاف البحوث والدراسات التي تناولته انني اتحدث عن الامام الشاطبي وكتابه -الموافقات في اصول الشريعة والذي اكمل جناحي علم اصول الفقه مع جناحه الاول الامامالشافعي .....وانا اعرض لمفهوم البدعة من كتاب الشاطبي المهم الاخر وهو الاعتصام 
في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً
وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق ، ومنه قول الله تعالى : "بديع السموات والأرض" أي مخترعها من غير مثال سابق متقدم ، وقوله تعالى : "قل ما كنت بدعاً من الرسل" أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل ، ويقال : ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق . وهذا أمر بديع ، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن ، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه .
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة ،فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع ، وهيئتها هي البدعة ، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة ، فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله .
ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة : حكم يقتضيه معنى الأمر ، كان للإيجاب أو الندب . وحكم يقتضيه معنى النهي ، كان للكراهة أو التحريم . وحكم يقتضيه معنى التخيير ، وهو الإباحة . فأفعال العباد وأقوالهم ، لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة : مطلوب فعله ، ومطلوب تركة ، ومأذون في فعله وتركه . والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفاً للقسمين الأخيرين ، لكنه على ضربين :
أحدهما : أن يطلب تركه ، وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك ، وهو إن كان محرماً سمي فعلاً معصية وإثماً ، وسمي فاعله عاصياً وآثماً وإلا لم يسم بذلك ، ودخل في حكم العفو  حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ، ولا يسمى بحسب الفعل جائزاً ولا مباحاً ، لأن الجمع بين الجواز والنهي ، جمع بين متنافيين .
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود ، وتعيين الكيفيات ، والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك .
وهذا هو الابتداع والبدعة ، ويسمى فاعله مبتدعاً ، فالبدعة إذن عبارة عن  طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه  ، وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة ، وإنما يخصها بالعبادات ، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول :  البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية  ، ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد . فالطريقة ، والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم .
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة ، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع ، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع ، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع ، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين ، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين ، وسائر العلوم الخادمة للشريعة . فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع ، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول ، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذاً أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤذي .
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس .
وكذلك أصول الدين ، وهو علم الكلام ، إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به ، كما كان الفقه تقريراً لأدلتها في الفروع العبادية .
( فإن قيل ) : فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع .
( فالجواب ) : أن له أصلاً في الشرع ، ففي الحديث ما يدل عليه ، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص ، فالشرع بجملته يدل على اعتباره ، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة ، وسيأتي بسطها بحول الله .
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد ، فليست ببدعة البتة .
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات ، إذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة ، لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال ، كما يأتي بيانه إن شاء الله .
ويلزم من ذلك أن يكون كتب ا لمصحف وجمع القرآن قبيحاً ، وهو باطل بالإجماع فليس أذاً ببدعة .
ويلزم أن يكون له دليل شرعي ، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال ، وهو المأخوذ من جملة الشريعة .
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة ، ثبت مطلق المصالح المرسلة .
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة ، بدعة أصلاً .
ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة ، وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة ، فلا يكون قول من قال ذلك معتداً به ولا معتمداً عليه .
وقوله في الحد  تضاهي الشرعية  يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة .
منها : وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد ، ضاحياً لا يستظل ، والاختصاص في الانقطاع للعبادة ، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة .
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، وما أشبه ذلك .
ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة ، كالتزام صيام يرم النصف من شعبان وقيام ليلته .
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة ، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ـ لأنها تصير من باب الأفعال العادية .
وأيضاً فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبساً بها على الغير ، أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة ، إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع ، لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعاً ولا يدفع به ضرراً ، ولا يجيبه غيره إليه .
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير .
فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجاً منهم ، كقولهم في أصل الإشراك "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" وكترك الحمس الوقوف بعرفة لقولهم : لا نخرج من الحرم اعتداداً بحرمته . وطواف من طاف منهم بالبيت عرياناً قائلين : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها ، وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع ، فما ظنك بمن عد أو عد نفسه من خواص أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك ، وهم المخطئون وظنهم الإصابة ، وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد .
وقوله :  يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى  هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها .
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك ، لأن الله تعالى يقول : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف ، فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة ، وأحوال مرتبطة ، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته ، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة .
وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة ، فإذا جدد لها أمر لا تعهده ، حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ، ولذلك قالوا : ( لكل جديد لذة ) بحكم هذا المعنى ، كمن قال :  كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور  .
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى أبتدع لهم غيره . فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة .
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات . فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ، كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة .
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل ، فإنها لا تسمى بدعاً على إحدى الطريقتين .
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله : يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية .
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها ، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته . لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات ، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه .وإن تعلقت بالعادات فكذلك ، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها .
فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول .
وكذلك البناءات المشيدة المختلفة ، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب .
ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر ، وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات ، فيعد المبتدع هذا من ذلك .
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله .

الخميس، 20 يناير 2011

....ومازال ابن خلدون يعيش معنا .....ويصف حالنا


في كيفية طروق الخلل للدولة

إعلم أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما فالأول الشوكة و العصبية و هو المعبر عنه بالجند و الثاني المال الذي هو قوام أولك الجند و إقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. و الخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أولا طروق الخلل في الشوكة و العصبية ثم نرجع إلى طروقه في المال و الجباية. و اعلم أن تمهيد الدولة و تأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبة و أنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها و هي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة و قبيلة فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف و جدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته و ذري قرباه القاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك و العز و الغلب فيحيط بهم هادمان و هما الترف و القهر ثم يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل و الإهانة و سلب النعمة و الترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون و يقلون و تفسد عصبيبة صاحب الدولة منهم و هي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب و تستتبعها فتنحل عروتها و تضعف شكيمتها و تستبدل عنها بالبطانة من موالي النعمة و صنائع الإحسان و تتخذ منهم عصبة إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم و القرابة منها و قد كنا قدمنا أن شأن العصبية و قوتها إنما هي بالقرابة و الرحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدولة عن العشير و الأنصار الطبيعية و يحس بذلك أهل العصاب الأخرى فيتجاسرون عليه و على بطانته تجاسرا طبيعيا فيهلكهم صاحب الدولة و يتبعهم بالقتل واحد بعد واحد و يقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك، الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا فيستولي عليهم الهلاك بالترف و القتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبة و يفشوا بعزتها و ثورتها و يصيروا أوجز على الحماية و يقلون لذلك فتقل الحماية التي تنزل بالأطراف و الثغور فتتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف و يبادر الخوارج على الدولة من الأعياص و غيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم و أمنهم من وصول الحامية إليهم و لا يزال ذلك يتدرج و نطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة و ربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه و يقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعانا لأهل عصبتها و لغلبهم المعهود و اعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أولا إلى الأندلس و الهند و الصين و كان أمر بني أمية نافذا في جميع العرب بعصبة بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل و لم يرد أمره. ثم تلاشت عصبة بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا. و جاء بنو العباس فنضوا من أعنة بنب هاشم و قتلوا الطالبين و شردوهم فانحلت عصبية عبد مناف و تلاشت و تجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بأفريقية و أهل الأندلس و غيرهم و انقسمت الدولة ثم خرج بنو إدريس بالمغرب و قام البربر بأمرهم إذعانا للعصبية التي لهم و أمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة. فإذا خرج الدعاة آخرا فيتغلبون على الأطراف و القاصية و تحصل لهم هناك دعوة و ملك تنقسم به الدولة و ربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصا إلى أن ينتهي إلى المركز و تضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك و تضمحل و تضعف الدولة المنقسمة كلها و ربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها و هي صبغة الانقياد و التسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها و لا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب و يكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جندي و مرتزق و يعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد يتصور عصيانا أو خروجا إلا و الجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك و لو جهد جهده و ربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج و المنازعة لاستحكام صبغة التسليم و الانقياد لهم فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة و لا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج و الانتقاض الذي يحدث من العصاب و العشائر ثم لا يزال أمر الدولة كذلك و هي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور و لكل أجل كتاب و لكل دولة أمد و الله يقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار. و أما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا و القصد في النفقات و التعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية و التحذلق و الكيس في جميع الأموال حسبان العمال و لا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال ثم يحصل الاستيلاء و يعظم و يستفحل الملك فيدعو إلى الترف و يكثر الإنفاق بسببه فتعظهم نفقات السلطان و أهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر و يدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند و أرزاق أهل الدولة ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات و ينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها و عوائدها و يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه و لما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه و أرزاق جنده ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس و تكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة و القهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة و يكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل و الهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم و تداوى بسكينة العطايا و كثرة الإنفاق فيهم و لا تجد عن ذلك وليجة و تكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية و كونها بأيديهم و بما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية و تفشو السعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة و الحقد فتعمهم النكبات و المصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم و تتلاشى أحوالهم و يفقد ما كان للدولة من الأبهة و الجمال بهم و إذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم و يكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة و ضعفت عن الاستطالة و القهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال و يراه أرفع من السيف لقلة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات و أرزاق الجند و لا يغنى فيما يريد و يعظم الهرم بالدولة و يتجاسر عليها أهل النواحي و الدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلال و تتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها و إلا بقيت و هي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته و طفئ و الله مالك الأمور و مدبر الأكوان لا إله إلا هو.

ابن خلدون يعيش معنا .....


الفصل الثالث و الأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها و مصيرها انتهابها من أيديهم و إذا ذهبت آمالهم في اكتسابها و تحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك و على قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها و إن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته و العمران و وفوره و نفاق أسواقه إنما هو بالأعمال و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين و جائين فإذا قعد الناس عن المعاش و انقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران و انتفضت الأحوال و ابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر و خلت دياره و خرجت أمصاره و اختل باختلاله حال الدولة و السلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة و انظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام و ما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم و الغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها و سأله عن فهم كلامها فقال له: إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى و إنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، و قال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية و هذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته و خلا بالموبذان و سأله عن مراده فقال له أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه و لا قوام للشريعة إلا بالملك و لا عز للملك إلا بالرجال و لا قوام للرجال إلا بالمال و لا سبيل إلى المال إلا بالعمارة و لا سبيل للعمارة إلا بالعدل و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب و جعل له قيما و هو الملك و أنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها و عمارها و هم أرباب الخراج و من تؤخذ منهم الأموال و أقطعتها الحاشية و الخدم و أهل البطالة فتركوا العمارة و النظر في العواقب و ما يصلح الضياع و سومحوا في الخراج لقربهم من الملك و وقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج و عمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم و خلوا ديارهم و أووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة و خربت الضياع و قلت الأموال و هلكت الجنود و الرعية و طمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.
فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه و انتزعت الضياع من أيدي الخاصة و ردت على أربابها و حملوا على رسومهم السالفة و أخذوا في العمارة و قوي من ضعف منهم فعمرت الأرض و أخصبت البلاد و كثرت الأموال عند جباة الخراج و قويت الجنود و قطعت مواد الأعداء و شحنت الثغور و أقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه و انتظم ملكه فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران و أن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد و الانتقاض. و لا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها و لم يقع فيها خراب و اعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء و أحوال أهل المصر فلما كان المصر كبيرا و عمرانه كثيرا و أحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء و الظلم يسيرا لأن النقص إنما يقع بالتدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال و اتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين و قد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب و تجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها و تجبر النقص الذي كان خفيا فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر و المراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر و اقع لا بد منه لما قدمناه و وباله عائد على الدول. و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقها ظلمة و المعتدون عليها ظلمة و المنتهبون لها ظلمة و المانعون لحقوق الناس ظلمة و خصاب الأملاك على العموم ظلمة و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله و اعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم و هو ما ينشأ عنه من فساد العمران و خرابه و ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري و هي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما، و أدلته من القرآن و السنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط و الحصر. و لو كان كل واحد قادرا على الظلم لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا و القتل و السكر إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة و السلطان فبولغ في ذمة و تكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه ني نفسه و ما ربك بظلام للعبيد و لا تقولن إن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع و هي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير و ذلك إنما يكون بعد القدرة عليه و المطالبة بجنايته و أما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب و أما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال و المدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعا و سياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب و الله قادر على ما يشاء. فصل: و من أشد الظلامات و أعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال و تسخير الرعايا بغير حق و ذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق و الكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم و أعمالهم كلها متمولات و مكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم و مكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم و اتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم و اغتصبوا قيمة عملهم ذلك و هو متمولهم فدخل عليهم الضرر و ذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة و إن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة و قعدوا عن السعى فيها جملة فأدى ذلك إلى انتقاض العمران و تخريبه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الاحتكار:
و أعظم من ذلك في الظلم و إفساد العمران و الدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب و الإكراه في الشراء و البيع و ربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التواحي و التعجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، و تعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. و قد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة و الواردين من الآفاق في البضائع و سائر السوقة و أهل الدكاكين في المآكل و الفواكه و أهل الصنائع فيما يتخذ من الآلات و المواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف و الطبقات و تتوالى على الساعات و تجحف برؤوس الأموال و لا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح و يتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع و بيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق و يبطل معاق الرعايا لأن عامته من البيع و الشراء و إذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم و تنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أوسط الدولة و ما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه و يؤول ذلك إلى تلاشى الدولة و فساد عمران المدينة و يتطرق هذا الخلل على التدريج و لا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع و الأسباب إلى أخذ الأموال و أما أخذها مجانا و العدوان على الناس في أموالهم و حرمهم و دمائهم و أسرارهم و أغراضهم فهو يفضي إلى الخلل و الفساد دفعة و تنتقض الدولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض و من أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله و شرع المكايسة في البيع و الشراء و حظر أكل أموال الناس بالباطل سدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة و السلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم و يعظم الخرج و لا يفي به الدخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقاباً و وجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج ثم لا يزال الترف يزيد و الخرج بسببه يكثر و الحاجة إلى أموال الناس تشتد و نطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تمحي دائرتها ويذهب برسمها و يغلبها طالبها و الله أعلم.ش